التيمائي الصغير
«لا تصالح! ولو منحوك الذهب
أترى حين أفقأ عينيك ثم أثبت جوهرتين مكانهما..
هل ترى؟ هي أشياء لا تشترى» أمل دنقل
هل فعلاً هناك أشياء لا تُشترى؟ أحياناً يبدو زماننا وكأنه “تاجر شنطة”، حقيبته غائرة عظيمة الانتفاخ، في قلبها كل شيء، صناعة أصلية وصناعة تقليد، المهم أن يكون لديك ما تقايض به.
أتجه راكضة نحو الساحة الخالية، تعلو مئذنة مسجدها فتمتشقها السماء، تمد لي سيدة مسنة يدين منمّشتين بآثار الزمن، “لا تنسينا يا ابنتي”، “لا أنساك يا خالتي، لا أنساك”، فجأة ينفجر بيننا دخان أزرق يتجلى فيه وجه الشيطان، تقع الخالة المسنّة، وأركض أنا بحلاوة الروح، أتذكر وعدي، أعود لها فلا أجد سوى عباءتها مكلومة على الأرض، أركض إلى منتصف الساحة يأكلني تأنيب الضمير، فجأة أجد نفسي في منتصف حشد شبابي يتراكضون بفزع، أنظر في وجه ميمنتي، فإذا به وجه طلال، ابني البكر، أصرخ فيه “طلال، لمَ أنت هنا؟ عد للبيت يا حبة قلبي”، يدفعني بيديه صارخاً “هي أشياء لا تُشترى”، أتلفّت علّني أجد من أستنجد به ليعيد بِكري إلى أمان البيت، فإذا الوجوه كلها طلال، كل الراكضين يحملون وجهه، أصرخ فزعة، أسقط على ظهري فتتساقط فوق وجهي آلاف الزهور، إنه مأتمي، إنني أموت.
أفزع في فراش بلله ضمير معذّب وخوف بلا حدود، أسمع طنيناً في أذني ودقّات قلبي قد تضخمت حتى قارعت طبول الحرب، هل يمكن أن أشتري أحلاماً سعيدة؟ يقولون ممكن، فالعلم اليوم يبيعنا المستحيل، المهم أن تملك الثمن. تغيرت أنا كثيراً، عهدي بي هادئة مسالمة، في نفسي رضا تجاه كل ما هو حولي، غضبي قليل، ابتسامي كثير، أحب كل ما يشكل دنياي حتى المصاعب والعراقيل. أنّى لي أن أعرف أن مصاعبي نسمات وعراقيلي مداعبات يملح بها الزمن أيامي؟ سرقتني الحكومات العربية، سرقوا مني الهدوء وطيب الخاطر، حولوني إلى إنسانة معجونة بالغضب، لا تجد في سلامها الماضي إلا سذاجة وتعاليا. قهرني الظلم يتراقص أشباحاً في ظلام ليلنا، ثم يتجرأ فيخرج في إعلامنا، يقول أنا العدل المظلوم. قهرني السيد صالح الفضالة وهو يقول نعطيهم حقوقهم الإنسانية، نسيّر كل معاملاتهم، لا تزوير للجوازات الأوروبية، لا تجنيس لإحصاء 65 سوى لمن لديه أعمال جليلة، ليتوجها جميعاً تقرير البرنامج الذي يقول إن الناشطين الكويتيين الحاضرين في تيماء تواجدوا ليحموا رجال الأمن من المتظاهرين. كل كلمة شحذت سكيناً تطعن الحقيقة والعدل والكرامة الإنسانية ليس لـ”البدون” فقط، ولكن للكويتيين الناشطين مع إخوانهم “البدون” ومنذ سنوات طويلة، لمن يعرف الحقيقة الغرقى في إعلام التلفزيون الرسمي، لمن يسمع الكلمات وينظر في الصور، فيحاكي نفسه كالمجنون: ألم أكن هناك في تيماء يوم الاعتصام؟ ألم أشهد بنفسي منع أبسط حقوق “البدون” الإنسانية منعاً قاهراً مستمراً حتى اليوم؟ أليس إحصاء 65 أمراً منتهياً كما صرحت الجهات الرسمية مراراً وتكراراً؟ ترى، هل يبيع تاجر الشنطة شيئاً من هدوء النفس؟ ترى هل يعطيني تخفيضاً على سعر ابتسامة، ولو كانت تقليدا؟
أيها الاعلام الرسمي: كويتي، سعودي، بحريني، سوري، مصري، إيراني، يمني، ليبي، تونسي، أيها الإعلام الرسمي في كل مكان، بضاعتكم “مضروبة”، فكفوا، كفاكم الله شر الكذب الساذج، أغلقوها وشمعوها بالشمع الأحمر، في جعبة “تاجر الشنطة” شاشات صغيرة بخسة الثمن، عليها كل الحقيقة، فكفوا كفاكم الله وإيانا شر الأخبار المعلبة والمعلومات المفبركة، بضاعتكم زيت يقترب من النار، فامسحوا لزوجتها، وارموها في أقرب حاوية، واتركونا في همنا، لا تزايدوا علينا بالأحلام. على ذكر الأحلام، هل الواقع يُشترى؟
“آخر شي”: قترب مني صغير ونحن وقوف صامت في تيماء، ملتُ نحوه وسألت: “ماذا تفعل هنا؟”، “أنا “أتذاهر”، “صحيح؟” ابتسمت له، “وهل “تذاهرت” المرة الماضية”، “إي” أشار هو على استحياء، “وشنو صار”، ضاحكته أنا، “طقونا وأنا انحشت”. فجأة مالت الدنيا، وهرب الهواء، ورأيت وجه بكري مرة أخرى. لا أعتقد أنني سأعود في يوم لنفسي السابقة، تلك ذهبت مع الريح ومع كلمات صديقي “التيمائي” الصغير.
“آخر آخر شي”: مظاهرة الجمعة الماضية تباهت في حسنها وسلامها، وزع أطفال “البدون” الزهور على القوات الموجودة، حمل أفراد القوات الأطفال إلى صدورهم وقبلوهم، انتشرت رائحة عبقة في ساحة الحرية، لحظات خارج إطار الزمن والسياسة، منفصلة عن الأوامر، متحررة من العنصريات والطبقيات، لحظات إنسانية نادرة كان فيها كل الوجود آباء وأمهات وأطفالا، “تلك أشياء لا تشترى”.