التائهون في الأرض
توفى قبل أيام مهران كريمي ناصري، عديم الجنسية إيراني الأصل والذي أقام في مطار شارل ديغول الفرنسي لمدة ثمانية عشر عاماً بعد أن تعقد وضعه كلاجئ عديم الجنسية وبعد أن رفضت سلطات كل البلدان المحيطة وبعض البعيدة إدخاله إلى أراضيها. ألهمت قصة ناصري، الذي أصبح يدعى لاحقاً بإسم السير ألفريد، عدداً من الأعمال الفنية أشهرها فيلم “ذي تيرمينال” للمخرج ستيفين سبيلبيرغ والممثل توم هانكس، حيث أتى هذا الفيلم بكارثة انعدام الجنسية وعذابات إجراءات اللجوء إلى الوعي العالمي العام ولو إلى حين.
إلا أن الناس تنسى، كلنا ننسى، وما يضج به الوعي العام لفترة يذهب طي مشاكلنا وتفاصيل حيواتنا اليومية. نُسي مهران في مطار شار ديغول على مدى ثمانية عشر عاماً، سنوات طويلة منها ضاعت في قضايا منظورة أمام المحاكم الأوروبية في محاولة لإدخاله الأراضي الفرنسية أو البلجيكية والتي باءت معظمها بالفشل، وحتى حين وافقت السلطات البلجيكية في النهاية على تجديد أوراق اللجوء السياسي لمهران والذي كان مقيم على أراضيها سابقاً رفض مهران العرض مصراً على عدم رغبته في العودة لبلجيكا التي عاش فيها سنوات كلاجئ. بعدها قدمت الحكومة الفرنسية تأشيرة دخول مؤقتة لمهران إلا أنه رفض الدخول كذلك احتجاجاً على معاملة الحكومة الفرنسية له، حيث تبدت مقاوماته المتلاحقة هذه كمؤشرات على اضطرابات نفسية، طبقاً لموقع ويكبيديا، بدا أنه يعاني منها نتيجة الظروف التي كان يمر بها.
قصة السير ألفريد، كما كان يفضل أن يدعى، ليست بالجديدة مطلقاً على تاريخنا البشري الحديث، فمنذ تحديد الحدود الدولية وتأسيس النظام المدني للدول والجنسيات والهويات الرسمية، تعاظمت وتفاقمت مشاكل العديد من البشر الذين وقعوا بين “شقوق” هذه الدول الحدودية والقانونية ليتعلقوا على مداخلها ومخارجها، تماماً كما حصل مع السير ألفريد، أو ليتوهوا في صحاريها الشاسعة أو في بحارها المتسعة. يحكي تاريخنا البشري الحديث عن قصص ملايين الأشخاص الذين وقعوا بين الفراغات القانونية والهوياتية للدول خصوصاً بعد الحربين العالميتين، لينفى الكثير منهم ليس فقط في براري هذه الدول وعلى حددها المقفرة ولكن كذلك في مياهها الإقليمية ثم المياه الدولية وليعيشوا سنوات طويلة على متن السفن والمراكب بلا أرض تستقبلهم أو مكان مستقر يمكن أن يسمونه ويستشعرونه بيت ووطن. تطل علينا قصص حزينة حارقة للعديد من هؤلاء التائهين على أسطح المياه العميقة البعيدة والذين انتهى الأمر بهم إلى أمراض نفسية وعصبية وجسدية مزمنة أو الذين سبقوا هذه الظروف كلها إلى حتف اختياري سريع.
كيف يمكن أن نصدق أن مثل هذه المآسي لا تزال مستمرة في عالم اليوم المتحضر، عالم الحقوق الإنسانية والنضالات الحقوقية والاشتمالية البشرية وتشجيع التنوع والتفرد والاختلاف؟ كيف يمكن أن نستوعب أن في عالم اليوم ما يزيد عن الإثني عشر مليون عديم جنسية يعانون الأمرين بداية من فقدان الهوية والعذابات النفسية والروحية المصاحبة له، وصولاً إلى أقسى درجات العنف والاضطهاد وتهديد الحياة، وما الروهينغا سوى مثالاً أقصى لمثل هذه الحالات؟ كيف يمكن أن نتفهم وجود حالات انعدام حنسية في دول متقدمة كالدول الأوروبية والولايات المتحدة المتفاخرة بمنظومتها الحقوقية وفي دول منعمة كدول الخليج المتباهية بنفطها وأموالها وفي دول ضخمة شاسعة الأراضي والبشرية كالصين والتي لن يضيرها شيئ أن تضم هؤلاء التائهين إلى أراضيها؟
لانعدام الجنسية أسباب عدة، بعضها خطير وعميق وتاريخي وبعضها ضغائني عنصري كاره وبعضها سخيف سوداوي الكوميدية، إلا أن كل هذه الأسباب تقود لنهاية واحدة تقتل الهوية بضربة قلم ثم تخنق صاحبها ببطئ ليموت معذباً حزيناً تائه الروح. عيب علينا كبشر أن يبقى بيننا من هم من بني جنسنا ولكن ملفوظين منا كلنا، لا أحد يقبلهم ولا عاقل يميز قيمتهم البشرية ولا صاحب ضمير يحكم ضميره في مأساتهم، كل هذا يحدث لهم دون أن يكون لهم يد في صنع قدرهم، دون ذنب مرتكب أو خطأ متعمد.
تتعالى الأصوات في الكويت هذه الأيام تحاوراً حول موضوع عديمي الجنسية في الكويت، أو كما يطلق عليهم “البدون.” ورغم أن هناك الكثير من الأصوات الضمائرية الإنسانية الواعية، إلا أن نبرة الأصوات العنصرية لا تعلوها نبرة، فهي أصوات وقحة، لا تتوانى عن الصراخ لتكتم الأصوات الأخرى، ولا تتورع من القذف والقدح، لا حياء في نبرتها ولا عفة في مفرداتها ولا أخلاق تحكمها. بالنسبة للأصوات العنصرية، تماماً مثل المعارك الإغريقية والرومانية القديمة التي كانت مصدر ترفيه للناس في الواقع، الصراع مفتوح ومطلق دون أي قيد أو شرط ومستمر حتى الموت.
بدون الكويت ليسوا بشر منسيين نتاج حرب، ليسوا غرباء عن أرض لا يعرفون لغتها ولا يفهمون عاداتها وتقاليدها ودينها، ليسوا حديثي التواجد على بقعة لا يخبرون طبيعتها وجغرافيتها، بدون الكويت في معظمهم لازموا متجنسيها منذ نشأة الدولة الحديثة، عملوا في جيشها وشرطتها، ذادوا عن أمرائها حين عملوا في القوات الخاصة والحرس الخاص، استشهدوا في معاركها، وكانوا ولا يزالون يعيشون على أرضها ويدرسون في مدارسها ويستثمرون أي أموال لهم فيها ويتكلمون لغتها ويدينون بدينها ويعشقون ترابها ولا يعرفون أرض غيرها، فأي مقياس أكبر وأنجع نحتاج لنخلق به الهوية ونقيس به الولاء والانتماء؟
هل جزاء الإحسان والبقاء في الأرض والإخلاص لها إلا العدل وضمان الحقوق الإنسانية الكاملة والمستحقة؟ الكويت دولة غنية، صغيرة، ذات طبيعة خاصة، محاطة بكيانات سياسية ضخمة، لها وضع خاص وتعاني مخاطر خاصة وتحتاج لضمانات واحترازات خاصة، هذه كلها نعرفها، حتى أصبحت المقولات هذه أقرب للأنشودات الوطنية التي يعلن بها أصحابها من المواطنين “حبهم وإخلاصهم ووطنيتهم”، هؤلاء من أصحاب جملة “إذا كان حبي لوطني عنصرية، فأنا بكل فخر عنصري” معتقدين أن في هذه الجملة حكمة وطنية أخلاقية في حين أنها تفتقر لمعاني الكلمات الثلاث برمتها. لا توجد عنصرية جيدة، ولا يوجد عاقل يفتخر بعنصرية أياً كانت نوعيتها، لكنها اللعنة البشرية التي تقدم العواطف الهائجة والتمييزات البائدة على العلم والعقل والمنطق والضمير دائماً وأبداً.
لكن، يبقى أن هناك أمل، أمل في تحقيق شيئ ما وصولاً لسنة 2024 وهي السنة التي حددتها المفوضية السامية للأمم المتحدة لشؤون اللاجئين لإنهاء انعدام الجنسية تماماً، أمل أن تعي الدول المتقدمة تناقض موقفها من الحقوق الإنسانية، أن تستوعب الدول الخليجية كراهة تعنتها بكل قدراتها المالية، أن تستوعب العراق وإيران وتركيا وأرمينيا وغيرها الكثير من الدول فداحة موقفها تجاه هؤلاء الضائعين المعانين على أراضيها.
كم سير ألفريد يعيش اليوم على الخطوط الحدودية وفي الصحاري الشاسعة وعلى صفحات المياه الممتدة تحت أسوء الظروف وأبشعها وأقلها أمناً واستقراراً. معيب على البشرية هكذا وضع، أن تشهد حياة شخص اضطر أن يعيش ثمانية عشر عاماً على كرسي في مطار تدخل إليه وتخرج منه مئات الطائرات يومياً بلا واحدة قادرة على إنقاذه، أن ترى أمام أعينها حيوات أشخاص تهدر على الحدود القاسية وفي البقع الجغرافية الصعبة التي لا ترحم، أن تلفظ بكل وقاحة وبلا وجه حق من هم من أبناء جنسها مهما كانت حجتها. هذه مصيبة لازمة الحل، وستبقى ملازمة الذكرى، نقطة سوداء دائمة في تاريخنا البشري القصير.