تحميل إغلاق

نعامة

نعامة

أرسلت عبر تويتر أحيي التوجه التونسي التنويري الذي هو ليس بغريب على هذا البلد المميز الصغير، الذي عاد مؤخراً بإقرار البرلمان التونسي لقانون يجرم العنف ضد المرأة، ثم بدعوة من الرئيس التونسي لمراجعات قانونية تسمح بالمساواة بين المرأة والرجل في الميراث وبزواج المسلمة من غير المسلم على اعتبار أنه توجه «لتكريس المساواة ومواكبة التشريع للسياق الزمني والحضاري ولمتطلبات الواقع المتغير»، كما جاء على لسان الرئيس السبسي. ليست هذه الطفرة الفكرية الدينية بغريبة ولا مفاجئة، فهي نتاج تفكير تطويري ديني ممتد وإن كان غير ظاهر، لم تمتلك سوى تونس شجاعة إظهاره الى السطح السياسي وتفعيله في الحياة العامة. مثل هذه القراءات التنويرية هي التي ستأخذ بيد المجتمعات الإسلامية الى الأمام وباتجاه تمدين الدول بصورة كاملة وعلمنة قوانينها بشكل حازم.
ليست هذه التوجهات الفكرية، التي سبق أن كتب فيها عدد كبير من أمثال نصر حامد أبو زيد وفاطمة المرنيسي وغيرهم، هي موضوع هذا المقال. موضوعي هو رد الفعل العام الذي ظهر على تويتر كمرآة لدواخل النفوس والعقول كذلك. دع عنك الغضبات والشتائم، هي ردود فعل أصبحت معتادة مع كل جديد تطويري يطرح في الفكر الإسلامي، وهذه الردود، في الواقع، متوقعة بل ومثيرة للتعاطف من حيث كشفها عن مخاوف الناس والصراع الداخلي الذي يجول في خواطرهم. ما يثير الإنتباه هو حجم الجهل المطبق في أبسط أحكام وقواعد الشريعة الإسلامية، أو في الكثير من تفاصيل القصص التاريخية الإسلامية التي على أساسها تم بناء هذه الأحكام والقواعد. في حواري مع إحداهن أصرت على حرمة تغيير قوانين وممارسات كانت موجودة في عصر النبي، فأعطيتها مثال إنتهاء العبودية والتي كانت ممارسة في عصر النبي، بل إن النبي في حد ذاته توفي وهو يملك العبيد، فهذا كان نظام إقتصادي قائم وما كان للنبي أن ينهيه بشكل صارم ومفاجئ. غضبت السيدة وأرغت وأزبدت وإتهمتني في عقلي لتصريحي بأن العبودية ليست محرمة في الإسلام، ولأنني أخبرتها أن الغرب في الواقع هو من إستصدر قوانين تحريم وتجريم العبودية وليس أي دين من الأديان الحديثة.
مثل هذا الحوار ليس غريبا مطلقاً على المناقشات الدينية عندنا، فلو سألت النساء المسلمات مثلا عن أصل قصة الحجاب وكيفية تشريعه، فأقل القلة هن من سيعرفن القصة وما إرتبط بها من حقيقة إقرار الحجاب فقط على الحرة دون العبدة. لو ناقشت مواضيع مثل زواج الصغيرات والتمتع بهن أو لو حللت أحداث كحدث جمع القرآن واللغة التي كتب بها، أو لو سردت قصص تاريخية من بداية العهد الإسلامي، لوجدت أن معظم الردود تأتيك جاهلة تماماً للوقائع التاريخية والتشريعات الدينية، فهي ردود إما تكون مبنية على مفاهيم حديثة مشتقة من مبادئ حقوق الإنسان التي شكلها الغرب لا الأديان السابقة، أو تكون مرسومة بما تقدمه لنا المناهج الدراسية أو الإعلام المشيخي العام من حيث فرش تاريخ إسلامي ذي صفحات ناصعة البياض أمام الناس، وعليه، فإن أية مناقشة مخالفة لهذه النصاعة أو أية محاولة لسرد أحداث تثبت عكسها تأتي بردة الفعل المعتادة التي تنم عن جهل عميق بكل ما يحيط بهذا الدين وعند أشد الناس تمسكاً به.
من الغريب جداً أن يحيا الناس في مجتمعاتنا حيواتهم على أساس التعاليم الدينية بشكل شبه مطلق، يرسمون خطواتهم ويوقتون ساعات يومهم ويلبسون ويتزوجون ويدخلون الحمام بل ويعاشرون أزواجهم طبقاً لتعاليم هذا الدين، وهم لا يعرفون أحكاما أساسية فيه أو قصصا رئيسية بنيت الكثير من قواعد هذا الدين عليها. هذا الجهل يتسبب في شدة نفسانية هائلة تنعكـــــس ســــبا وشتمًا وعنفًا مع الآخر الذي يكشف عن قصة مستورة أو يذكر حكماً غير منتشر، يحضرني هنا مثال رد الفعل الشرس تجاه فتوى إرضاع الكبير التي لا يزال الكثير من المسلمين رافضين لحقيقة وجودها في أمهات الكتب الإسلامية.
أليس من الأجدى لمن يحيا حياته على أساس الدين ولمن يرغب في الدفاع عنه وإظهار وجهه المشرق أن يفهمه ويواجه قصصه كلها حتى يعرف كيف يتعامل معها من دون عامل الصدمة الذي يحول هؤلاء المتدينين الى ساخطين عنيفين؟ أليس من الواجب فهم السياقات التاريخية كلها حتى يتمكن المسلم من استخدامها لتفسير وتبرير الكثير من القصص والأحكام التي لم تعد مقبولة اليوم؟ دفن الرأس في التراب أو الهياج في وجوه الناس والصراخ بهم وشتمهم لن يغير الحقائق ولن يبدل القصص ولن ينقح الكتب التاريخية، وحدها العقل والمنطق والقراءة السليمة التطويرية يمكنها أن تفعل كل ذلك. العبودية حلال في الإسلام شئنا أم أبينا، إما نفهم ومن ثم نفسر المعطيات التاريخية ونقر بالتغيير الذي يتطلب التطوير، أو نصرخ ونزعق ونشتم الآخرين الذين ينتهون الى الإشاحة بوجوههم ضاحكين علينا، لنا الخيار.

اترك تعليقاً