إنقاذ مهاجرين في البحر المتوسط
“الأنانية الأخلاقية”
في العمل الإنساني، كثيرا ما تجد نفسك مسحوب عميقا إلى لب القضايا، متغلغلا في تفاصيلها، حتى ليتحول الكثير منها إلى قضايا شخصية بالنسبة إليك، وحتى لتنغمر حياتك بعد زمن بشعور مستمر بالتقصير وتأنيب الضمير.
حين أنغمس بعيدا يذكرني زوجي أنني أرفع الفواصل بين حياتي وعملي، وأنني أحتاج ألا أجعل من كل قضية وقصة وحالة موضوع شخصي؛ إلا أن الفصل بين الإثنين، القضية والحياة الشخصية، ليس بالموضوع اليسير، ذلك أن القضايا الإنسانية ذات طبيعة تواصلية ملحة تقترب من كونها مرضية، فبحكم تشاركنا في بشريتنا نستطيع تخيل آلام هذه القضايا، وبحكم فطرة حب البقاء والسعي للحفاظ على النوع تجبرنا هذه البشرية على مد يد العون والمساعدة وأحيانا الانغماس في المشكلة إلى حد يأخذ علينا حيواتنا ويصعب الفصل بين واقعنا الشخصي والواقع المتنوع شديد التباين للبشرية بأكملها.
وكان أن قدمت د. مشاعل الهاجري، أستاذة القانون المدني في جامعة الكويت، ترجمة ممتازة لمقال الفيلسوفة الرأسمالية آين راند، والذي عنونته د. الهاجري “أخلاقيات الطوارئ”*، والذي يتعامل مع فكرة “الإيثار” من حيث حقيقيتها، دوافعها، وأخلاقيتها، بما يرتبط بشكل مباشر بالكثير من الأسئلة الدائرة في نفسي حول مفهوم المساعدة وحدودها.
وعلى الإبهار المنطقي للمقال، إلا أن نفسي لم تستطع تقبل عقلانيته الصلفة في تعامله مع الطبيعة الإنسانية المعقدة، أو لربما هي روحي التي عجزت عن الإقرار بالأنانية المطلوبة والتي تلمست حقيقة وجودها في حياتي بين سطور مقال الكاتبة؟
تقول راند: “دمر الإيثار فكرة أي خير حقيقي أو نوايا طيبة بين البشر. لقد لقن الناس فكرة أن تقدير إنسان آخر هو فعل غير أناني، مضمر بذلك ضمنا أنه لا مصلحة شخصية للمرء في الآخرين ـ وأن تقدير قيمة الآخر يعني التضحية بالنفس ـ وأن أي حب، احترام أو إعجاب يمكن أن يشعر به المرء تجاه الأخرين ليس ـ ولا يمكن أن يكون ـ مصدرا لمتعته الشخصية، بل تهديد لوجوده، صكّ تضحية على بياض تم الإمضاء عليه لمصلحة من يحبّ” (11).
تؤكد راند أن الأفراد الذين يقعون على الجانب الآخر من فكرة الإيثار، أي المستفيدين من “أقصى منتجات الإيثار” هم المرضى النفسيون الذين “لا يبالون إطلاقا لأي شيء حي” وأن أغلبية البشرية تقع بين هذين الجانبين المتناقضين والذين يتسببان في “فوضى فكرية عارمة على جبهة العلاقات الإنسانية السوية”.
وتشير راند إلى وجود حيرة، إذا صح التعبير، في إدراك أو تصور المبادئ الأخلاقية وأن المعظم لا توجيه لديهم، حسب تعبيرها، “في مجال الأخلاق التي يسيطر عليها الابتذال للإيثار” (11).
تعرف راند التضحية على أنها “تسليم شيء ذي قيمة كبيرة مقابل شيء ذي قيمة أقل أو من دون قيمة” (11) إلا أن “المبدأ العقلاني للسلوك” في رأيها “هو على النقيض من ذلك تماما: تصرّف دائما وفق تراتبيّة مبادئك (hierarchy of your values)، ولا تضحّ أبدا بشيء ذي قيمة كبيرة مقابل شيء أقل منه قيمة” (11).
تعطي راند مثالا واضحا على أن المصلحة الشخصية والأنانية هي ما تسير معظم أفعالنا حتى حين يبدو الوضع ظاهريا نقيض لذلك، فعلى سبيل المثال، الرجل الذي يدفع كل ما لديه من مال لينقذ زوجته من مرض عضال هو يأتي ذلك لأن بقاءها يضمن سعادته أكثر من وجود المال لديه.
تؤكد راند بأن “الطريقة المُثلى للحكم بشأن متى يكون على المرء مساعدة شخص آخر وما إذا كان عليه القيام بذلك هي من خلال الإحالة إلى المصلحة الذاتيّة والعقلانيّة للفرد وإلى تراتبيّة قيمة الشخصية: إن الوقت، المال أو المجهود الذى يكرّسه المرء أو المخاطرة التي يأخذها ينبغي أن تتناسب مع قيمة الشخص الآخر فيما يتعلق بالسعادة الخاصة المتحققة من ذلك” (12).
من خلال توصيف راند المنطقي “الصلف” هذا، سيتبدى أن الأم تقدم كل أنواع المساعدة التي نصفها بالإيثار والتضحية من باب المحافظة على سعادتها هي الشخصية ومن باب إبقاء من تحب ومن يضيفون بثقل لنوعية حياتها سالمين سعداء.
تتعارض هذه الفكرة ومفهوم الإيثار الأمومي العاطفي الذي طالما كان قاعدة أساسية في التقييم الأخلاقي بل والديني الذي يضع الجنة تحت قدمي الأم بسبب من إيثارها وتضحياتها، في حين أن تحليل راند المنطقي يشير إلى أنانية صحية، إذا صح التعبير، خلف هذه الرعاية الأمومية.
فإذا كان “إيثار” الأم مصلحي في النهاية، أو هو ليس إيثارا أصلا وإنما، كما تقول راند، هي “نزاهة” والتي تعني “إخلاص المرء تجاه قناعاته وقيمه” (13)، فما معنى إذن العمل الإنساني الذي يقدم للأغراب الذين لا تأثير مباشر لهم في حياة الإنسان؟ تقول راند “إنه الاحترام العام والنوايا الطيبة التي يمنحها المرء للإنسان باسم القيمة المُحتملة التي يمثلها ـ إلا إذا تخلّى عنها” (13).
الإنسان العقلاني بالنسبة لراند “لا يغيب عنه أن الحياة هي مصدر جميع القيم… إنه يدرك حقيقة أن حياته هي المصدر، ليس فقط لجميع قيمه، وإنما أيضا لقدرته على التقييم. لذلك، فإن القيمة التي يسبغها على الآخرين هي محض نتيجة، امتداد، انعكاسٌ ثانوي للقيمة الأوليّة التي تتمثل فيه هو شخصيا” (13).
وعليه، يجب على الإنسان أن يحافظ على حياته أولا لأنه دون أن يكون حيا، لن يستطيع مساعدة الآخرين بل ولن يستطيع تقييم حيواتهم. نحن، من خلال إجلال الكائنات الحية الأخرى، حسب توصيف راند، نجل أنفسنا، مما يعيدنا لمفهوم الأنانية الصحية والتي من خلالها نستطيع تقييم كل حي ينتمي لفصيلنا.
تفرق راند بين الحالات الطارئة والحالات العادية في الحياة وهي تؤكد أنه “في حالات الطوارئ فقط يكون على المرء واجب التطوّع لمساعدة الغرباء، إذا كان بوسعه ذلك” (14) وأن ذلك يجب أن يكون ناتج “عن النية الطيبة لا عن الواجب” (14).
كما أن المساعدة، في رأي راند، يجب أن تكون مؤقتة، فليس على الإنسان أن يطعم فقيرا طول العمر كما وأنه ليس عليه أن يبحث عن كل الفقراء حول العالم طوال حياته لإطعامهم “فيتحول سوء حظ بعض الناس في هذه الحياة إلى ارتهان لحياة الآخرين” (14).
تنتهي راند إلى القول بأن “الهدف القيمي من حياة الإنسان هو تحقيق سعادته الشخصية، وهذا لا يعنى أن يكون لا مباليا تجاه الآخرين… بل إن ما يعنيه هو ألا يكرّس حياته لما يحقق صالح الآخرين، وألا يضحى بنفسه لاحتياجاتهم، وأن إراحتهم من معاناتهم ليس شغله الأوّل…” (15).
لربما لأن راند لم تحيى في الشرق الأوسط، هي لا تدرك تماما معنى أن تكون الكوارث هي القاعدة لا الاستثناء، وأن النجاة بالنوع البشري الشرق أوسطي تتطلب تضحيات وعمل مستمرين لا تطوعات مؤقتة متى ما تسنت ودون أن تتعارض والمصالح الشخصية، وأن السعادة الشخصية، في هذا الجزء الغريب من الكون، رهينة الظروف العامة التي لا ينجو منها سوى أغنى الأغنياء الذين يستطيعون تأمين أنفسهم في البقع الأخرى من الكرة الأرضية حيث تتوافر رفاهية الحديث عن المصلحة والسعادة الشخصيتين.
أقول ذلك معترفة تماما بتقصيري، وبأنني من الفئة التي تساعد عرضيا، مرحليا، وفي تقديم لحياتي الشخصية في معظم الأحيان عما عداها. عنايتي هذه بحياتي، وعناية كل من حولي بحيواتهم، تبدو على طبيعتها غير أخلاقية (ولربما غير منطقية؟) على نحو كبير في ظل الظروف الفاحشة للمنطقة وفي ظل عذابات قريبة جدا لجيران يقول المنطق بضرورة نجاتهم لكي ننجو نحن كذلك.
مقال راند يريح الضمير منطقيا ولكنه مؤرق إنسانيا، فنزعته الداروينية التي تدفع إلى العناية بالذات من منطلق أنها المنحى للعناية بالآخرين بما يشكل معنى إيجابي للأنانية قد تأخذ أبعادا خطرة من حيث التشجيع على هذه الأنانية التي في الغالب ستأخذ أشكالا قصوى عند البشر محولة هذه الدنيا من الغابة التي هي الآن، إلى أدغال متوحشة الغلبة فيها فقط لأقوى الأقوياء والحكم فيها دوما لمصلحته.
إن فلسفة راند المنطقية القاسية تماما، وإن لم تستطع أن تحول التفكير البشري مع مطلع القرن العشرين إلى “الأنانية الأخلاقية” كما تسميها المترجمة د. الهاجري، إلا أن لفلسفتها هذه تأثير كبير على مفاهيم الأخلاق على مدى القرن والنصف اللاحقين، والتي هي مفاهيم لا يزال البشر متنازعين بينها، بكل مثاليتها، وبين حيواتهم واحتياجاتهم، بكل متطلباتها “المبتذلة” أحيانا.
أدرك أن مصلحتي تحكم كل تصرف من تصرفاتي، ولربما هي يجب أن تكون كذلك، ولكنني أكره هذه الحقيقة، فما هو الإنسان فاعل تجاه هذه المعضلة الأخلاقية الموجعة.