تحميل إغلاق

كيكة

فيما كنت أتسوق في أحد متاجر الكويت، سألت العاملة عن فستان كنت قد رأيت صورته في إحدى المجلات وجذب انتباهي برسوماته الرائعة، حيث يمتلئ بصور ذات طابع فيكتوري، أو ربما روماني، لأشخاص وزهور وأشجار، يشكلون في مجملهم لوحات فنية جميلة. وحين استغربت عدم وجوده، أخبرتني البائعة أن الفستان لم يطلبه المتجر نظراً لحساسية وجود رسومات أفراد عليه قد تشكل معضلة «محافظية». علقتُ قائلة إنه على الرغم من تكرار محاولات المنع في شتى المجالات؛ من الحفلات، إلى معارض الكتب، إلى منع دخول أفراد.. التي كلها ترمي إلى مراعاة الروح المحافظـــة للبلد، إلا أن هذه المحاولات دوماً ما تبدو كوميدية، خارج إطار المعقول المنطقي من حيث اتساقها مع جو الكويت العام، هذا البلد المنفتح المتحرر نسبياً الذي هو المصدر الأول لصناعة الفنون في الخليح، ومن حيث فاعليتها في ظل وجود تكنولوجيا تأتي لك بما تريد إلى باب غرفتك الخاصة.
علقت العاملة: الغريب أن هناك انزعاجاً من الرسومات، لكن لا يوجد انزعاج من الفراء الطبيعي مثلاً، أو من جلود الثعابين والتماسيح المستخدمة في صناعة الملابس والحقائب والأحذية. تبدى عندها السؤال الذي لا يجب أن يطرح، وهو مع ذلك يطرح نفسه: أيهما أحق بالغضبة الأخلاقية، صور لأشخاص على فستان أم مواد مستخلصة من عمليات تعذيب بطيئة بشعة لكائنات حية، مواد لا فائدة حقيقية لها سوى إظهار ثراء فارغ وتعزيز فروقات طبقية؟
أتذكر ذات زمن أنني كنت أقف في دكان في شارع دولة عربية معروفة بأجوائها المنفتحة، فإذا برجل يعلق على فتاة تتريض راكضة في الشارع: «شوف ملابسها، الله يستر عليها». التفتُ للرجل مبتسمة استفهاماً: «لم يضايقك الشارع الضيق والقمامة المتكومة في أطرافه والعمارات القائمة كلها بشكل مخالف على جانبيه، وضايقك شورت الفتاة المتريضة؟» إن غرابة علاقة القمامة/الشورت هذه تتبدى في كثير من مناحي حيواتنا الشرق أوسطية، حيث نجد أن مصادر غضبنا لا تتناسب وحجم الموضوع، وأن دواعي سكوتنا لا تتواءم وفداحة الأخطاء. نغضب إذا قصرت تنورة امرأة ولا نغضب إذا طالت يد رجل على نسائه «دفاعاً عن الشرف»، نغضب إذا أفصح مفطر ولا نغضب إذا جاع فقير، نغضب من «إسلاموفوبيا» الغرب ولا نغضب من فجاجة ووقاحة من يحيون من أهلينا في دياره، يعيشون بين ظهراني أهل الغرب ويشتمونهم ويتمنون خراب حيواتهم وديارهم، نغضب إذا رقصت امرأة ثائرة في شوارع بلدها ولا نغضب إذا احتفل رجال «بالنصر الإلهي» على أشلاء البيوت والأشخاص، نغضب دائماً في المكان الخطأ والوقت الخطأ، ونتجاهل حيث يجب أن نغضب ونثور، فما الذي يقسرنا على هذا السلوك المتناقض يا ترى؟
لست هنا أتكلم عن مجرد الرفض للظواهر الخاطئة (مع التحفظ على كلمة خاطئة من حيث إنها نسبية جداً) ولكنني أتكلم عن الغضب والثورة تجاهها. لربما كلنا سمعنا عن «هوجة» تقوم وبالكاد تقعد بسبب ملبس امرأة أو بسبب إجهار مفطر أو بسبب فيلم أو كتاب ناقدين. سمعنا، على سبيل المثال، عن الاعتصامات التي مات فيها الآلاف في شوارعنا العربية على إثر الكاريكاتير الدنماركي المسيء، ولكن هل سمعنا عن ثورة فعلية وليس إلكترونية بسبب جريمة شرف، هل سمعنا عن اعتصام ضد شتم الآخرين المختلفين ونعتهم بالقردة والخنازير؟ هل خرجنا نطالب حكوماتنا إطعام الناس وإنهاء الفقر وترميم البنى التحتية وإخراج المعتقلين من السجون؟ هل غضبنا من القمامة المتراكمة قدر غضبنا من الشورت القصير؟
لربما هو أسهل أن نغضب من الأشياء الظاهرة البسيطة البعيدة- شورت، علاقة حب، كتاب ناقد، كاريكاتير سخيف- عن أن نغضب من الأشياء الخطيرة القريبة، قمع ذكوري، قمامة، فقر، ميليشيا تحتفل بانتصارها رغم موت الأبرياء من حولها. لربما هو أكثر أمناً أن نثور حين ترقص النساء من أن نثور حيث يسرق اللصوص، لربما هو أوقع أن نعتصم بسبب كاريكاتير أو مقال صدرا في مكان بعيد عنا ومن أفراد لا ينتمون لمجتمعاتنا من أن نعتصم بسبب مناهج رجعية متطرفة تفرخ لنا ضحايا ومجرمين في قلب هذه المجتمعات في ذات الوقت. لربما يعكس الغضب تجاه الشورت غضباً مقموعاً تجاه القمامة، غضباً محظوراً التعبير عنه، غضباً من الأسلم لصاحبه لو ظهر متخفياً خلف ألف شورت من أن يشير بوضوح إلى القمامة المتناثرة. صغائر الأمور تتضخم عندنا لأن تضخمها ينتج غضباً تنفيسياً مريحاً، فيما عظائم الأمور تظل مختفية تحت جهلنا أو تجهيلنا أو تجاهلنا، ومن خاف سلم. لربما الأسهل منع الفستان ذي الصور اللطيفة من الفراء الفخم باهظ الثمن، بذلك نكون راعينا «محافظة» المجتمع وتدينه وأشبعنا توق أفراده ورغباتهم المخملية، فالجميع يمكنه أن يلاحظ «إشكالية» صور الأشخاص على الفستان، ولكن من سيفكر بحرمة الفراء المسلوخ عن جلد كائن حي معذب ليوضع بدلال على أكتاف الأغنياء وأقدامهم؟ نمنع الأوضح فنضمن الكامن العطن، نحافظ على المظهر المحافظ ونستمتع بالمخبر الذي نريد مهما بلغ فساده، فنتحصل، كما يقول المثل الإنكليزي، تصنع الكيكة ونأكلها في الوقت ذاته.

اترك تعليقاً