اعتذار
أود أن أعتذر، أن أقول أنا آسفة لكل امرأة لم أذكرها تصريحاً إبان حراكنا النسوي في الكويت، لكل فئة نسوية شعرت أنها مهمشة وأنها معزولة عن الحراك والحوار، لكل مجموعة مصنفة بعنصرية تناثرت نساؤها في الأحياء والبيوت تصارعن العنصريات والتهميش بصمت ووحدة.
أعتذر لأنني مجرد شخص منفرد، حياتي وزمنها، جسدي وقدراته وعقلي وإمكانياته لن تتمكن جميعها من ذكر ومساعدة واحتواء كل بنات جنسي اللواتي يعانين بصمت أو بصخب دون أن أمد يد مساعدة ومساندة حقيقيتين. قد لا يتسنى كل ذلك لبشر منفرد، ولكن بعضه ممكن ولربما لم أوف أنا بكل بعضه هذا، ولهذا التقصير، أنا ومن كل قلبي آسفة.
بعد أن شاركتُ في ندوة عن النسوية قبل أيام، تواصلت معي بعض الشابات، يلمنني أنني لم أذكر تصريحاً معاناة السيدات البدويات اللواتي يرزحن تحت أثقل أحمال الذكورية الأبوية في عالمنا العربي بشكل هرمي بدأ من عائلة إلى قبيلة امتداداً إلى حكومة كلها تستقر بثقلها ودكانتها فوق أكتافهن.
كتبت لي “شفية” مثلاً تخبرني “إننا نشعر بأن لا مكان لنا في الحراك النسوي منذ بدايته، استقبلنا كضحايا وفي أحسن الحالات كناجيات، غالباً غاضبات ومعقدات نفسياً، ساخطات همجيات، قولبتنا كانت ولازالت مزعجة جداً، اختزالنا … كمواضيع للنقاش والتحليل كان يجب أن يتغير وفعلا تغير وأثبتنا وجودنا، بحدة، في الحراك كذوات تعبر عن نفسها وعن غيرها من النساء”.
وتكمل “شفية” قائلة: “كان عزاؤنا الوحيد هو أن الحراك النسوي سيحتوينا ويفهمنا ويساندنا ويشد على أيادينا، نعي أن الاختلافات موجودة ونستوعب تأثيرها، نعلم أن البيئات مختلفة والعقليات كذلك، والتيارات متعددة داخله، لكن تفاجأنا بحدة الصدام وسرعة الانقسام، لا ننكر بأنه من الممكن أن بعض أخطائنا ساهمت في ذلك”.
استنكرت “شفية” اشتراط البعض قالباً محدداً عليهن في الحراك النسوي أو تعييرهن باتخاذهن بعض الإجراءات الأمنية، مثل التحرك الافتراضي فقط وبحسابات مخفية، مما يدفع بالبعض التقليل من قيمة تحركهن. تؤكد “شفية” أن “غضبنا مستحق، وهو وقودنا حتى لا ننسى أننا نرزح تحت أنظمة أبوية قهرية”.
تميل “شفية” للأسلوب الحاد والصارم في النقاش كأسلوب دفاعي عن النفس، وهذا موضوع آخر تناقشت فيه مع مجموعة منهن مطولاً، ذلك أنهن، حسب ما أخبرتني هي بتعبير رائع لا يغادرني أبداً: “أعتقد أننا ورثنا جينات البداوة من أسلافنا المناهضة لكل وصاية وسلطة وعشق للتحرر من قيود الانتظام والانصياع لأي كيان مسيطر”.
تحليل “شفية”، الذي ذكرته هي في عارض تفسيرها للغة الحادة المستخدمة اليوم بين بعض الناشطات الشابات، مختلف ومثير للانتباه فعلاً وهي تشكله تشكيلاً أنثروبولوجياً اجتماعياً.
ورغم أن حدة الخطاب النسوي ليست بظاهرة جديدة مطلقاً على الحراك العالمي، إلا أن ما يحدث على الساحة المحلية اليوم يتعدى الحدة بكثير بإشكالياته الكبيرة وآثاره النافذة والتي قد تكون طويلة الأمد، وهذا موضوع آخر لمقال آخر. لكن يبقى أننا لربما كلنا كنساء، ونحن نولد موعودات بالنضال ومحملات بأعباء أنوثتنا، نتوارث هذه الجينات المقاوماتية عن سالفاتنا كوسيلة من وسائل البقاء والمحافظة على الحياة.
ولأن الحديث عن الداخل الثقافي الخاص عملية خطرة قد تفضي لأذى أو عنصريات غير مقصودة وبالتالي ينحى الكثيرون للحذر حين إتيانه، يبقى التهميش هو أحد أوقع معضلات العمل الإنساني عموماً والعمل النسوي تحديداً. فبحدودنا الإنسانية البيولوجية وتأثراتنا الثقافية المجتمعية، لا يمكن لأحد أن يناضل على كل الجبهات كل الوقت، محافظاً في آن على خصوصية ثقافة الآخر واختياراته في الحياة.
من هذا المنطلق، لطالما كان التهميش عائقاً وحجر عثرة على امتداد تاريخ النضال النسوي، حيث تضطر النساء، متفرقات في أغلب الأحيان، ليس فقط لمواجهة نظام أبوي عنيف ولكن كذلك لتحدي نظام طبقي قاسٍ يقصيهن، نظام ديني وطائفي صارم يفرقهن، ونظم اجتماعية عدة تفصلهن عن بعضهن البعض لتستفرد بهن في بيوتهن متفرقات وحيدات. هذه الأسافين المدقوقة بيننا تشعرنا دوماً بالانعزال فيما بيننا وبتهميش متقصد أو غير متقصد لقضايا بعضنا البعض.
من المجدي الإشارة إلى أن كل فئات النساء الأخرى النظيرات للنساء البدويات في الكويت، مثلاً لا حصراً: العجميات، البهائيات، المسيحيات، المنتميات لطبقة فقيرة، المتزوجات من غير كويتيين، عديمات الجنسية، المتجنسات، إلى غيرها من التصنيفات النسائية الثقافية والإثنية والدينية والطبقية، واللواتي يتقاطعن مع بعضهن البعض ومع البدويات في التصنيف، كلهن يعانين ذات السلوكيات القمعية: حد حريات، رسم ممنهج للحياة، فرض الزواج، التعنيف الجسدي واللفظي والنفسي (قضايا العنف بل والقتل التي ظهرت مؤخراً ضمت بكل حسرة وحزن النساء من كافة أطياف المجتمع)، الشعور بإنسانية من الدرجة ثانية، الاضطرار لإخفاء الغضب والتلون والتلوي للحصول أي حق ولو كان هامشي في الحياة إلى آخرها من صور الضغط الرهيب اليومي.
وعلى حين أنه قد تكون هناك اختلافات في درجة المعاناة، أحياناً ثقافية (باختلاف الثقافات) وأحياناً فردية (باختلاف الأفراد أو العائلات)، إلا أن الخطوط العريضة واحدة.
واقع الحال أن العمل النسوي معقد وشديد الحساسية. فهناك صعوبة بالغة في إيجاد فسحة “أخلاقية” واضحة لطرح حديث خاص حول ثقافات خاصة لا نشكل كفاعلات في الحراك النسوي جزءاً مباشراً منها. فبأي طريقة كنت لأتحدث، كنت لأبدو إما متطفلة وقحة على وضع لا أفهمه ولم أعش في ظله أو متعالية تحكم من منطلقاتها الخاصة على حيوات نساء لهن ثقافة مختلفة عنها.
لنا أن نتخيل سيدة من المجتمع العجمي تنتقد الظروف الداخلية لنساء المجتمع البدوي، أي قبول وأي يتفاعل كانت هذه السيدات “المناهضات للوصاية والسلطة” كما تصفهن ونفسها “شفية” سيقابلنني به؟ وبذات القلق لم أستطع أن أتدخل كثيراً وبشكل مباشر حتى في الوسط الشيعي المتزمت وهو يقيم احتفالات “التكليف” للصغيرات في عمر التاسعة، يحتفي ببلوغهن “سن رشد” ما تقرره الطائفة، يلزم الصغيرة بأن تكبر فجأة وتتحمل مسؤولياتها كامرأة لا طفلة.
من الصعب بمكان انتقاد “الكود الأخلاقي” لأي ثقافة، وخصوصاً المختلفة عن ثقافة الناقدة أو الناقد، دون الظهور بمظهر الجهل والتعالي. لذلك دائماً يلح السؤال: كيف يمكنني الوقوف مع غيري من النساء دون أن أتعدى حدي في المساعدة والمساندة، أي دون أن أبالغ فأصبح مقتحمة لخصوصية لا أفهمها ودون أن أقصر فأصبح متخلية غير مهتمة؟
العمل النسوي في عالمنا العربي المظلم صعب وخطير، جوانبه الصعبة تتم في الخفاء، مُعْلَنَهُ حساس خطير قد يسيئ للنساء بحد ذاتهن أو حتى يهدد حيواتهن. المطالبة بالتحرر قد تنتهك حق وحرية الاختيار المحافظ، والمطالبة باحترام المُحافظة قد ينظر لها على أنها استسلام أبوي وتشجيع ذكوري وتخلي عن نساء يرغبن بالخروج من سجن المحافظة الاجتماعي. هي شعرة يجب أن نمشي عليها.
وعليه، كنت أحاول دائماً ان أتكلم بعمومية، ألا أبدو متطفلة، ألا أظهر ناقدة لمجتمعات لا أنتمي إليها أو لتصنيف عميق منها. العمومية وفرت طريقة تنكرية لتواصل النساء في المجتمعات “الداكنة” وكأنها إشارات خفية بيننا، أما القضايا الخاصة، فيتم التعامل معها بعد أن تتواصل صاحبة القضية، ليتم تفعيل إجراءات خاصة وسرية لا يمكن الحديث عنها. لازلنا في الكويت نفتقد لمركز إيواء للمعنفات، وحين تتبدى لنا حالة مثلاً، نتلقفها وندور بها السبع لفات حتى نحرز تصرفاً يؤمنها ويحفظنا من المطبات القانونية، وكثيراً ما نفشل في إحداهما أو كليهما.
وللشابات البدويات اللواتي تواصلن بعتبهن أود أن أقول، بعد أن أضمهن إلى صدري، أن لربما كلنا نشعر أننا مهمشات ووحيدات ومحصورات في زوايانا. ليس في الحذر من الحديث، على الأقل بالنسبة لي، تعنصراً ضد أو استنقاصاً من بداوتكن كما لا أعتقد امتناعكن عن الحديث عن معاناة المرأة العجمية مثلاً استهدافاً لأصولها.
أتصور أولاً أن لديكن أولويات مجتمعاتكن الداخلية، وهذا واقعنا جميعاً، حيث طالما كانت هناك حركات تخصصية نسائية في ذات المجتمعات التي تضمهن، وثانياً أن لديكن مخاوف من الحديث حول ما لم تعشنه أو نقد ثقافات أنتن لستن جزء منها، أن تسئن لصاحبات هذه الثقافة وأنتن تتقصدن الإحسان أو تعسرن حياتهن وأنتن تتقصدن المساعدة أو أن يصطبغ حديثكن بصبغة العنصرية والنظر بدونية للثقافة الأخرى في حين أنكن ترمين لمحاربة ذلك. هذه هي ذات مخاوفي وذات منطلقاتي في تحفظي..
إلا أن ما لا يمكن قبوله ولو للحظة هو أن تشعرن أنكن منفصلات، مهمشات أو غير مشمولات في الحراك النسوي العام. في الواقع، أنتن تصنعنه اليوم، ولعلكن تقدنه وتؤدين دوراً أفضل في ضمان شمول كافة أطياف المجتمع النسائي فيه.
الزمن تغير، خطابكن تطور بمراحل غير مسبوقة ومعه ارتفع بالتأكيد سقف نضالكن وتوقعاتكن. ورغم اختلافي مع بعض الأساليب المتبعة، إلا أن مسؤولية شعوركن بالتهميش والإقصاء تقع علي ومن سبقنكن على الطريق، ولهذا أنا جادة وصادقة أعتذر.