اشتقنا إلى النور
أوجعتني ختمة مقال الزميلة الرائعة لمى العثمان ليوم الجمعة السابق حيث تقول “لا داعي لزيارة المتاحف في بلاد الأنوار، فلدينا متاحف حية نعيش داخلها”. والموجع كثيراً ليس معرفة هذه الحقيقة، فالمعرفة توصل إلى التعامل معها والتغلب عليها، ولكن الموجع هو غيابها، خصوصاً عن الكثير من النشء الذي من طول ما أقام في المتحف تحول إلى قطعة أخرى أثرية على رفوفه تستحرم التفكير.
إلا أن اللوم لا يقع في جله ولا معظمه على الناس، فالخطاب التغييبي قوي اليوم، والأسلوب المستخدم للترويع وخلط الحقائق بالأكاذيب هو أكثر ما طورنا في عالمنا المنكوب. أتذكر أنني عندما بدأت أتابع CNN في صغري، كنت منبهرة بتقزز بلغة الخداع المحبوكة، فمثلاً يقول الخبر: “قتل فلسيطيني خمسة جنود إسرائيليين، ومئة فلسطيني ماتوا”، صياغة عميقة الخبث تنم عن ذكاء فاحش يروم غسل العقول. هذا هو الخطاب الديني الحالي عندنا، فبالإضافة إلى أنه خطاب يروع الناس بالحرق وعذاب القبر بل بالعقاب الدنيوي في حياتهم وأبنائهم ومعاشهم، فهو كذلك خطاب مخادع يكرر نفسه أمام كل الحجج حتى يغلب التكرار المنطق والحقائق في عالم المتاحف الذي نعيش فيه.
فمثلاً، ذكرت الزميلة العثمان خطاب د. محمد العوضي حيث يقول إن “الأسرة آخر معقل إنساني نعتصم به ضد العلمانية والإلحاد”. أولاً، ربط الدكتور بين العلمانية والإلحاد، وهو، على الرغم من أنه نفى أن تكون العلمانية إلحاداً في إحدى مقابلاته فإن ربط الكلمتين هاتين في هكذا خطاب يعزز توحدهما. ثم بعدها يأتي التنافي في خطاب الدكتور بين التكوين الأسري والعلمانية والإلحاد، والذي أتى في صياغة حلوة وكلمات منمقة تخفي خلفها الغياب التام للمنطق والواقع، بل لأي فهم معقول ومقبول. بخلاف ألا رابط بين الثلاثة أشياء المذكورة: العلمانية، الإلحاد، الأسرة، فكرياً، فمن المعروف أن تطور النظام الأسري مدنياً وترتيبه أتى كنتاج للنظام العلماني الذي اعتمد الأسرة نواة للمجتمع ورتب أمورها. فترتيب السكن والغذاء والتعليم والطبابة وغيرها من الحاجات الأساسية المتوافرة للأسرة الكويتية اليوم مثلاً هو نتاج النظام العلماني المدني للدولة لا نتاج النظام الديني. هذا، ولا أعتقد أن هناك أي حقائق أو منطق تؤيد أن العلمانيين أو الملحدين لا يتزوجون ولا يشكلون أسرا ناجحة، لكن كيف لي أن أنكر كم هو ذكي هذا الربط اللغوي، فهو يضرب عصفورين بحجر: يسبغ على العلمانية معنى الإلحاد ويفصل نظام الأسرة الحميم عن العلمانية، كل ذلك بصياغة جميلة وقصيرة لا يؤثر بها غياب المنطق أو حتى التضليل الواضح المتجلي في العبارة.
ثم يأتي محمد هايف ليقول “القول إن العلمانية فيها عدالة يمثل طعنا في الإسلام”، ولهذه الجملة معنيان: فإما أن المطلوب منا الكذب الصريح بنفي أن العلمانية هي أساس العدالة المدنية بين الناس، والتي أباحت للمسلمين وغيرهم حقوقاً لا يحلمون بها في دولهم الدينية، وإما أن هايف يريد اتهام الإسلام بأنه يخلو من المنطق العلماني الذي لا يفرق بين البشر على أساس من عقيدة أو أصل أو جنس وغيرها، لكن المعنى يتوه في الصياغة، فلا يرى الناس سوى: علمانية، طعن، إسلام. ويأتي فهيد الهيلم ليقول “الليبرالية بوابة الإلحاد الكبرى في عالمنا العربي”، وغفل عن القول إنها بوابة الحرية التي سمحت للكثيرين كذلك باعتناق الإسلام في ديارهم غير المسلمة والمعتنقة لليبرالية. نعم الليبرالية تعطينا حق الاختيار، ولكن صياغة الهيلم تقصي كل الحقائق وتستقطع فكرة واحدة مدسوسة: الليبرالية تشجع الإلحاد. ليست فقط هي الشجاعة التي تنقص هذا الخطاب، الشجاعة في الاعتراف بأن الليبرالية هي إقرار بحرية الآخر في أن يعتنق أو لا يعتنق ما يشاء، ولكن ينقصه الصدق كذلك، فالليبرالية في الواقع هي بوابة حرية اعتناق الدين الكبرى، هي التي حررت اختيارات الناس الدينية فدخل من بوابتها المتدينون أكثر من الملحدين. هذا غير أن كلام الهيلم يدلل على أن الدين إجبار أكثر منه اقتناعا، فلو تركت الحرية للناس الداخلين من “بوابة” الليبرالية، لترك الكثيرون منهم الدين إلى الإلحاد، هل هذه معلومة صحيحة؟ هل تصب هذه المعلومة في مصلحة الأديان؟ إنها جملة تدين فكره بحد ذاته وبمعلومات خاطئة، فلا الناس في الدول الليبرالية أقل تديناً، ولا القسر والقهر صفتان جميلتان لأي عقيدة أو دين.
ذكاء شديد هذا المستخدم في صياغة التعابير والجمل، خلط وتغييب وكذب صريح، كلها متداخلة حتى ليبدو الرد عليها ضرباً من السباحة في اصفرارها المريض. متحفنا كبير يشبه المتاهة يا لمى، لن نخرج منه إلا إذا اشتقنا جميعنا إلى النور.