«إعمل نفسك ميت»
كتب كثيرون حول التغير المتوقع لعالم ما بعد كورونا، كيف أن عالمنا هذا لن يعود لما كان عليه، كيف أنه سيتغير تماماً من جذوره لتتحول موازين القوى وتتبدل إمبراطوريات الاقتصاد وتتغير الحسبات السياسية وتتحول الطبائع والعادات الاجتماعية. عالم اليوم لن يكون كعالم الأمس، هذا الفيروس الميكروسكوبي غير الحي غير كل شيء. غير فعلاً؟ كل شيء؟ وإلى الأبد؟
هل أنا الوحيدة بسذاجتى وقصر نظري التي لا ترى التغيير؟ شيء من الشكل الخارجي تغير، وإلى حين محدد. تغطت الأفواه بقطع ورقية أصمتتها لبعض الوقت، اختفى نصف ملامح الوجه، وأصبح تعرف بعضنا على بعض أصعب بعض الشيء، غابت المصافحات واندثرت القبلات وأصبحت الأحضان في خبر كان. خلت بعض المدن إلى حين، أقفرت بعض الشوارع إلى حين، انخفضت أسعار وارتفعت أسعار وانهارت مشاريع وتضخمت شركات. برزت حكومات وتداعت حكومات. الصلاح السياسي والحكمة في إدارة الأمور وإنسانية المنحى القيادي أتت ثمارها في كثير من الدول، نيوزيلندا مثالاً، الفساد السياسي والتهور في إدارة الأمور وعنصرية المنحى القيادي برز عفنها في كثير من الدول، والأمثلة لا تعدّ ولا تحصى. المشاريع الإلكترونية شمخ حظها، فيما المتاجر والمطاعم تندب نصيبها منه. الصين أصبحت العدو الأول والمنقذ الأول في الوقت ذاته، إسرائيل أصبحت الصديق الصدوق، دول الخليج تذوقت طعم التعكز بلا بترول، وأمريكا لا أحد يفهمها، لا أحد يفهم شيئاً مما يدور في عقل رئيسها أو على لسانه.
في خضم كل ذلك، أصبح الفقراء أكثر فقراً والأغنياء أكثر غنى. اصطفت الطوابير من أجل أكياس الخبز في أجزاء من العالم وأخرى في أجزاء أخرى اصطفت أمام متاجر روليكس وكارتييه. لبنان انفجر بقنبلة ذرية، السودان يغرق بالفيضانات، اليمن يلفظ أنفاسه تحت الكوليرا، مصر تئن تحت البذلة العسكرية، العراق يئن تحت العمامة السوداء، دول الخليج تصلي استسقاء بترولياً، أمريكا تتوعد، تركيا تستعد لاستعادة الخلافة، الصين: «إعمل نفسك ميت». ما الذي تغير؟ يبدو لا شيء تغير. التاريخ البشري بجلالة قدره ينبئنا أن لا شيء يتغير، وما يتغير يعود لحاله بعد أن يختفي العارض وتزول الأسباب.
لا أرى أن كمامة تغطى الفم ستغلق باب الشر، فالصوت الشرير مسموع من خلف الكمامة التي لن تستطيع منع رذاذه. ستعود الأحضان والقبلات بصدقها القليل ونفاقها الكثير، وستمتلئ المدن بسُوّاحِها وكذلك بسكان شوارعها المتشردين الذين ساعدتهم كارثة كورونا في الواقع بأن وفرت لهم حكوماتهم، خصوصاً في الدول الأوروبية، المساكن المؤقتة. ستأكل الشركات الكبيرة الصغيرة، وستأكل الحكومات الكبيرة الصغيرة، ستتردى الأحوال الإنسانية في دول وستتحسن في دول، كل ذلك حسب التوقع والتنبؤ السابقين، كورونا فقط سرعت الخطى ودفعت قدماً بالزمن، وليس أدل على ذلك من سرعة حركة الصداقات العربية الإسرائيلية. من منا لم يكن يرى هذه الصداقات قادمة تقرع طبولها من على بعد؟ كنا نكذب آذاننا ونغمي عيوننا، وكل ما فعلته الكورونا أن ضغطت زر التقديم السريع، فتحركت الصورة بهزلية وكوميدية، و«تسرسع» الصوت بصفير عال، ووقع ما كنا نتوقع وقوعه، بضع سنوات أسرع، هذا كل ما في الأمر.
هل سنتغير كبشر؟ هل ستحولنا الجائحة بعيداً عن أنانيتنا الجينية في اتجاه إنسانيتنا الحضارية المكتسبة؟ فيما يبدو، معظمنا يتجه إلى أنانية جينية مخيفة أججتها الجائحة ومخاوفها الوجودية. الضعفاء والفقراء يتساقطون من القطار، ومتوسطو الدخل يصارعون لدخوله، والأغنياء يستعدون لصعود المركبات الفضائية السرية ليغادروا الأرض إذا ما دقت ساعة الصفر. لا شيء في نمط تفكيرنا ومنطقتنا للأمور تغير، فما زالت الأنانية تحكم تفكيرنا وما زال الصراع على «الخبز» يدير دفة منطقنا. هل سيفسح بعضنا لبعض شيئاً من المكان؟ هل نحن مستعدون للتنازل عما اعتدنا عليه لنتشارك به مع الآخرين الذين لم يعتادوا سوى الحرمان؟ هل ستحول الجائحة أنظارنا للحقيقي المهم في الحياة.. لقيمة الإنسان وقيمة الزمن الذي يقضيه على الأرض؟ هل سيغير الفيروس من عوامل تقييمنا: من عوامل المادة واسم العائلة والأصل والفصل ورابط الدم والعلاقات واللون والنفوذ، إلى عوامل العمل الجاد والمهارة الحقيقية وحسن الخلق وجودة التعامل؟ هل ستعلمنا كورونا أن ابن الغفير متساو إنسانياً وابن الوزير، وأن الطفلة الأنثى قد تعلو قيمتها الطفل الذكر، وأن الأسود نصاعته قد تفوق نصاعة الأبيض، وأن ابنة الأسرة العريقة متساوية تماماً وعاملتها الآسيوية التي تكوي لها ملابسها، وأن ابن الحسب والنسب المدلل قد لا تكون له أي قيمة أمام مجتهد مجد مجهول الأبوين؟ إذا تحقق ذلك في عالمنا القادم.. عندها نتكلم عن «التغيير في زمن كورونا» مع الاعتذار من غابرييل غارسيا ماركيز.