«إعلام أبو لسان»
إحدى نتائج الحراك العربي “الربيعي” هي تفوق فكرة التنوير الدكتاتوري أو الدكتاتورية المتنورة، والتي تعبر عن إيمان السلطات، وعلى ما يبدو حتى المثقفون والطبقات العليا العربية بأن التقدم والتغيير لم يكونا في يوم خياراً للشارع العربي، بل يحب أن يأتيا قسراً وبعد التخلص من أعداد كبيرة من العقول “المتحجرة” التي لا أمل في تغييرها. فكرة خطيرة هي هذه الفكرة والمقامرة فيها مرتفعة التكلفة، والمثال التركي “حي يذكر” والذي يبين أن التنوير الأتاتوركي الذي أتى مصحوباً بالدماء، والذي بلا شك أدخل تركيا في صفوف الدول المتقدمة، والذي هو على وشك أن يزج بها الى الاتحاد الأوروبي، قد ينقلب إلى ظلام مع شعور فئة واسعة من المجتمع التركي بالاضطهاد والتكبيل.
اليوم، نجد أن الحالة المصرية تأخذ هذا المنحى في هذه الحملة الإعلامية الشعواء ضد الإخوان المسلمين. نشاهد احتفاليات التصويت على الدستور والتركيز الإعلامي على المنقبات والمحجبات في مشهد يريد الإعلام من خلاله التلويح بتحول الشارع المصري بأكلمه، وكأن التيار الديني الإخواني لم يعد له ظهر ولا قدم، “شو” إعلامي ساذج لا يختلف في رأيي عن إعلام الدكتاتوريات السابقة. ولربما لا تلام الحكومة المصرية الحالية كثيراً على مثل هذه المنهجية، فقد عاش المجتمع العربي في أحضان الدكتاتورية على مدى قرون، حتى إنه لم يعد يعرف منهجية سواها ولا يفقه أسلوب تعامل مختلف ولا منطق فكري مغاير، الكل يبدأ بنوايا حسنة وبوعود غارقة في الحرية والديمقراطية، وما إن يمسك “المختلف” الدفة، ويبدأ تلاطم الموج، حتى يصبح “مشابها” فيأمر بخفض الأشرعة، ويبدأ برمي المشاغبين من ظهر السفينة، فهذا أسهل من إقناعهم وتغييرهم خصوصاً في حال ارتفاع موج لا يرحم ولا يهمل.
إن تعامل الإعلام مع الاستفتاء الدستوري والحركة الاحتفالية المغالية فيه، في حين أن المراد بها الإشارة إلى تغيير بهيج، هو تعامل ساذج أحادي النظرة كيدي العبرة، وكأنه يحاول إغاظة الطرف الآخر وتمريغ وجهه في الهزيمة. وهذا أسلوب فوق سذاجته هو في منتهى الخطورة، فهو يفرق ولا يجمع، ويعزل ولا يلم، ويوغر الصدور ولا يهدئها. لن يكون نتاج ما يحدث سوى توسيع الهوة وتعميق الشقاق في الصف المصري الذي هو الآن أحوج ما يكون لقائد يجمع ويوحد ويتعامل بأقصى درجات الدبلوماسية مع المنهزم قبل المنتصر.
ولا تختلف بقية الدول العربية في تناولها الإعلامي كثيراً عن التناول المصري، ففي الكويت، أتذكر أنه وفي ذروة غليان الشارع المنقسم بين مشارك ومعارض، يعرض التلفزيون الكويتي حفل استقبال سمو الأمير للمؤيدين الذين ظهروا يقبلون كتف سموه معبرين عن ولائهم ومحبتهم، وكأن المعارضين أصبحوا خونة وأعداء، توجه ساذج يعمق العداء ويجذره في صفوف الشعب. وكذا يفعل الإعلام البحريني والسعودي والعراقي وغيرها، يدلدل الإعلام الرسمي لسانه للمنهزمين، ويحلف ستين يمينا بانتصار الحكومات، ويحتفل ويبتهج بسذاجة مضحكة وتجاهل مؤلم للطرف الآخر الذي لا يلبث أن يوغر صدره ويزداد حنقه لتتسع الهوة بينه وبين أبناء وطنه.
لم تعد الفلسفة السياسية الحديثة تتسع لمنطق إبادة المخالف ولتمريغ وجه الغريم في تراب هزيمته، خصوصاً إذا ما كان هذا الغريم هو جزء من المجتمع وخيط من خيوط نسيجه. الفكر الحديث يقول بإعادة الدمج والتأهيل، بالإيمان بقيمة كل فرد والحرص على محاولة تغيير كل عقل. هكذا تتحقق الليبرالية الاجتماعية الحقيقية والتغيير التنويري العميق، فلا يمكن لمجتمع أن يصبح متنوراً واعياً بمبادئ الحريات وحقوق الإنسان عن طريق غزوة تحمل فيها الأسلحة، التنوير الحقيقي الدائم الفاعل يأتي بالإقناع، بالاهتمام بإعادة تأهيل كل فرد، بالحرص على حماية كل جسد، وفي النهاية بإعادة الوئام للمجتمع داخلياً عن طريق تغييره جماعياً، لا عن طريق تقسيمه وإيغار صدر فريق على آخر، وتشجيع هذا ضد ذاك. يوقدونها حرباً ويضعوننا في الطريق “فخار يكسر بعضه”، لا يهمهم من معهم ومن عليهم، إلى الجحيم الفريقان، المهم أن يبقى “فخارهم” سليماً، وهو لن يكون كذلك إلا إذا انشغلنا بكسر بعضنا بعضا. ليقف الرقص للحظة ولنلتفت لما يحدث، هل هذه علامات إصلاح وتنوير؟