سيدة منقبة تبكي خلال احتضانها شرطية دنماركية خلال تظاهرة ضد قانون حظر النقاب في الدنمارك
‘أين حقي*’
يدور في العالم اليوم حوار حول موضوع النقاب، ولربما كذلك موضوع الحجاب، والموضوعين مختلفين في جوانب كثيرة. حيث يتردد صدى هذا الحوار العالمي عندنا هنا في الكويت، كما في معظم الدول العربية الإسلامية، متأرجحا ما بين وجوبية هذا الملبس (النقاب) دينيا، واستحقاقه كممارسة خاصة بصاحبتها تعبيرا عن حرية المسلك الحياتي، وأخيرا ضرورة منعه كممارسة تهدد الأمن بإخفائها لهوية صاحبتها. نَحَت عدد من الدول مؤخرا لمنع النقاب، آخرها سريلانكا التي حظرت هذا الملبس على إثر عدد من الهجمات الإرهابية العامة التي ذهب ضحيتها ما يفوق المئتين وخمسين شخصا، مما أثار أسئلة مستحقة حول مدى أحقية هذه الدول في هذا المنع ومدى درجة المساس بحريات النساء جرائه.
لهذا الموضوع بعد عميق حساس في منطقة الخليج يعقد إجابات الأسئلة المذكورة أعلاه، حيث للنقاب بعد اجتماعي تقاليدي يتفوق في قوته حتى على الرؤية الدينية بوجوبيته من عدمها. ففي حين أنه تنحى معظم الآراء الدينية إلى عدم وجوبية النقاب كممارسة دينية، وتذهب بعض الآراء إلى منعه في الواقع، تشكل العادات والتقاليد الخليجية دافعا يتفوق في قوته على الرأي الديني فرضا وتعزيزا للنقاب الذي يعتبره البعض مصدرا للهوية القبلية التي تفرق نساء القبائل عن غيرهن من النساء.
وفي حين أن حجج منع النقاب تبدو قوية ومنطقية، فهناك الحجة الأمنية التي تستند على أن إخفاء الوجه، مصدر الهوية الأول تعريفا للإنسان، يعطي الفرصة للقيام بعمليات العنف والإرهاب مع حماية المنفذ أو تسهيل مهمته في الدخول لمناطق معينة متخفيا تحت ملبس النقاب.
وهناك كذلك الحجة الهوياتية والتي تستند إلى صعوبة التواصل الاجتماعي مع الإنسانة المختفي وجهها أسفل النقاب، حيث يمنع هذا الحاجز رؤية تعابير الوجه وبالتالي التعرف على ردود الأفعال والانطباعات والانعكاسات النفسية التي عادة ما نستشفها من تعابير الوجه وحركة عضلاته وأجزائه المختلفة.
وأخيرا هناك الحجة “المساواتية”، إن صح التعبير، والتي تقول إنه إذا ما كان للمرأة الحق في التغطي التام فإن هذا يقابله الحق في التعري التام، وذلك إذا ما كانت الحجة تستند إلى مفهوم حرية التعامل مع الجسد، وهو ما يعد غير منطقي أو مقبول أو قابل للتنفيذ، أقول إنه رغم قوة ومنطقية الحجج التي تدعو لمنع النقاب، إلا أن مبدأ حرية الاختيار، في رأيي، يجبهم جميعا.
والحرية ليست ميزة في عمقها، هي في الواقع مسؤولية، وهي مسؤولية متعبة ومرهقة نفسيها وحياتيا. حين يستتب الأمر للحرية، فبكل تأكيد سترتفع الكلفة الاجتماعية علينا حين نرى ما لا يعجبنا ونسمع ما يسوؤنا ونتواجه وأساليب حياة تنفرنا ولربما تفزعنا؛ كذلك حين يستتب الأمر للحرية ستتزايد المصاعب الإدارية على الحكومات والتي يستوجب عليها التعامل مع التعددية والاختلاف، والتي من أجل ذلك ستسن القوانين وتؤسس لطرق وأساليب إضافية للحماية، ليضع كل ذلك عبء مالي وبدني ووقتي على الحكومات لتلبية متطلبات الحرية ولحماية كل أطرافها.
إلا أن كل هذه المصاعب والتكاليف المالية والجهدية والوقتية لا تقارن بالناتج العظيم الذي تؤسس له الحرية في المجتمع الذي يستتب أمره فيها. الحرية، في رأيي، صنو الأمن، فلا يمكن للأمن أن يستتب في الواقع إذا ما كانت الحريات في خطر، فالقمع يخلق الأقلية، والأقلية يحركها الغضب، والغضب يدفع للعنف الذي يقتل الأمن.
وعليه، إذا ما كانت الحجة الأهم دفعا لمنع النقاب هو المحافظة على الأمن، فإن التجربة الإنسانية تقول إن قسر الناس على منهجية حياة لا توافق عاداتهم أو تقاليدهم أو دينهم هو في الواقع ما سيتهدد الأمن ويخل بقواعده. نعم، لملبس النقاب مصاعبه وعوائقه، إلا أنه إذا كان في مقدرة الدولة تحمل التكلفة المالية والبشرية لضمان حرية الراغبات في ارتداء هذا الملبس، فيجب عليها أن تدفع هذه التكلفة وعن طيب خاطر، فهذه التكلفة لن تغطي فقط الجانب الحقوقي، هي ستغطي كذلك الجانب الأمني والجانب الإنساني، ستفسح طريقا إضافيا في المجتمع، وسترسل رسالة هامة للعالم أجمع حول أهمية الحرية وأولويتها في هذا المجتمع.
يمكن للتغيير المطلوب أن يأخذ مكانه من خلال ثورة فكرية وأيديولوجية قد تحدث على شكل طفرة سريعة وقد تأخذ وقتها، إلا أن التغيير في كل الأحوال هو سنّة الحياة التي لا حياد عنها وهو القدر القادم مهما حاول البشر مقاومته أو الحد من تأثيره.
سمعة “الدكتاتورية المتنورة” سيئة في رأيي إذا ما نظرنا لتجاربها المختلفة خلال التاريخ الإنساني. لا يستتب التغيير في أمر متعلق بالعادات أو التقاليد أو الدين بقانون أو بأمر أو فرمان. يستتب هذا التغيير عبر ثورة فكرية أيديولوجية تأخذ جميل وقتها لتتغلغل عميقا في قلوب ووجدان الناس.
وعليه، من ترى أن تغطية وجهها هو واجبها الديني أو هو اجتهادها الإيماني، يفترض أن تضمن لها دولتها المدنية حقها في تنفيذ ذلك أيا كانت التكلفة المادية أو المعنوية، لتسلك بعدها هذه الدولة سبيل التغيير الفكري الذي رغم بطئه سيكون أعظم تأثيرا وأقوى استتبابا.
وتبقى الأسئلة المتروكة للمقال القادم، ما مدى حقيقية حرية الاختيار لدي المرأة العربية أو المرأة المسلمة عموما؟ هل المرأة فعلا حرة نفسها في اختيار ملبسها وأسلوب حياتها؟ ما درجة الفرض والقمع البدني والنفسي والأيديولوجي الواقعين على المرأة التي “تختار” النقاب أو حتى الحجاب؟ إذا أردنا أن ندافع عن حق المرأة في اختيار ملبسها، فإن المستوجب هو ضمان ممارستها الفعلية وليست الصورية لهذا الحق في الاختيار، فهل تضمن المجتمعات والدول العربية والإسلامية هذا الحق؟
*مع الاعتذار لمحمد صالح بحرالعلوم صاحب القصيدة الخطيرة “أين حقي” والتي يمكن للقراء التحصل عليها بحثا عبر غوغل.