«أم هارون»
يُعرض منذ بداية رمضان مسلسل «أم هارون» على قناة MBC، وهو المسلسل الذي أحدث جدلاً موسعاً في الأوساط الخليجية والعربية بسبب حساسية قصته. يتناول المسلسل الوجود اليهودي في الخليج بشكل هلامي بعض الشيء، فلا هو واضح أي المدن يحكي المسلسل قصتها، هل هي مدينة الكويت.. المنامة.. أم غيرهما، ولا هو بيّن ما إذا كانت القصة نوعاً من التوثيق التاريخي أم الدراما الخيالية، وهو خلط أذكى جذوة الجدل الذي تحول إلى صراع كلامي شديد بين الناس.
الأعمال الفنية على وجه العموم، والدراما على وجه الخصوص، لا يجب أن يقف أمام إنتاجها عائق موضوعي، بمعنى لا يفترض أن تشكل مادة العمل أبداً معضلة لأصحابه، فالفن يفترض أن يتناول كل المواضيع، بل أن يبدأ بالحساس، الغامض والاستشكالي تاريخياً منها، فهذه إحدى أهم غايات صناعة الفن. لذلك، من العظيم فعلاً تناول موضوع الوجود اليهودي في الخليج، وهو تناول تأخرنا فيه كمنطقة خليجية كثيراً، فهذه حقيقة تاريخية لا يمكن نكرانها، كما أنها تحتاج إلى كثير من التفنيد والتوضيح والتوثيق للأجيال القادمة قبل أن يختفي هذا التـــاريخ في طيـــات ســـكوتنا وتحـــت طبقات من رفضنا المستمر لذكر أي شيء يتعلق باليهود، وكأن هذا الرفض صورة من صور نفيهم خارج التاريخ والواقع الحاضر.
لربما يساعد إنتاج المسلسل كذلك على توضيح وتوثيق فكرة الفرق بين اليهودية والصهيونية، فالأولى ديانة كان يدين بها كثير من العرب الذين كانوا يعيشون بها جنباً إلى جنب مع المسيحيين والمسلمين. ولربما يأتي وقت نوثق به حقيقة الوجود المسيحي العربي الذي كان، سابقاً لظهور الإسلام، هو الدين المسيطر على الجزيرة والمنطقة العربية. هل تلاحظون أننا لا نعرف الكثير عن تاريخنا قبل ظهور الإسلام؟ هل تلاحظون أن الصورة المرسومة في مخيلتنا لعرب ما قبل الإسلام هي لوحوش برابرة يمسكون بعظمة فخذ الخروف وينهشون منها وهم يفكرون في الحروب والغنائم؟ هل من أعمال فنية تعدل هذه الصورة الخرافية وتوضح حقيقة وتاريخ عرب ما قبل الإسلام؟
ما يثير كل الجدل حول المسلسل حالياً ليس هو التقييم الفني التكنيكي لصناعته وإخراجه وحبكته وطريقة خلق أحداثه، كما يفترض أن يكون، إنما المثير للجدل الآن هو النظر له على أنه خطوة في اتجاه التطبيع مع إسرائيل، وهي إثارة صنعها مجرد طرح موضوع المسلسل في حد ذاته، بغض النظر عن طريقة تناوله. فمهاجمة المسلسل بدأت قبل حتى أن يُعرض، كما لو أن أي تناول لموضوع الوجود العربي اليهودي هو في حد ذاته محاولة تطبيع، وكأن إحدى صور مقاومة الوجود الصهيوني اليوم تتجلى في نفي الحقائق التاريخية أو في معاداة اليهودية كديانة. كنت أفكر أنه لربما يكون توقيت صنع المسلسل غير ملائم ومثيراً للشكوك، ولكن واقعياً.. أي توقيت يمكنه أن يكون مناسباً؟ أي توقيت لن يثير الشكوك؟
هناك الكثير من النقد التكنيكي للمسلسل من حيث هلامية بيئته وافتعالية أحداثه، فهو مليء بالأخطاء التاريخية الحياتية، أقصد من حيث حقائق الحياة في ذلك الوقت، كما أن إخراجه المصري وضع صياغة بيئة المسلسل بين مساحتين: الخليجية والشمال إفريقية، مما جعل البيئة تبدو خيالية، أحداثها غير واقعية، حتى تفاعلاتها الكلامية غير منطقية. أداء الممثلين الرئيسيين جميل، ولكن من الواضح أنه تمت الاستعانة بممثلين جانبيين لا يتقنون لا اللهجة ولا الحركة ولا التعبير، ما جعل بعض المشاهد التي تشملهم تبدو مضحكة كوميدية.
ليست هناك قطرة في دمي أو دم أي «إنسان» حر يقرأ التاريخ يمكنها أن تمتص قبول فكرة التطبيع مع إسرائيل، أو يمكنها أن ترضى بالانهزامية والاستسلام المهين للأمر الواقع. إلا أن كل ذلك جانباً.. لا يعني أن أي عمل فني يتعامل مع اليهودية في منطقتنا أو يوثقها، أو أي عمل يتعامل مع اليهودية عموماً في أي زمان مكان، هو محاولة تطبيع أو تمرير اليهودية من تحت أنوفنا، ونحن لسنا لا بهذه السذاجة ولا بهذه الخلخلة النفسية التي ستجعل مسلسلاً درامياً أو كتاباً تاريخياً يحولنا عن طريق القضية العربية الإنسانية الأولى. فلسطين محتلة بكل ما لكلمة الاحتلال من معنى بائد وقح قديم عنيف عسكري استعماري اغتيالي للحق والعدالة والكرامة الإنسانية. لن يأتي عمل فني، أو كتاب أدبي أو تاريخي، أو لوحة أو منحوتة، أو أي نوع آخر من أنواع التعبير لتصنع عازلاً يمكنه أن يغطي عين الشمس. التاريخ لا يتبخر، والحق لا يذوب، والحقوق الإنسانية الأصيلة لا تنطوي تحت تأثير أي عمل مهما بلغت قوته أو انتشاره.
وسواء امتدح الكيان الصهيوني المسلسل أم لم يمتدحه، هذا لن يغير من حقيقة الوجود اليهودي القديم، ولن يغير من صرامة المبدأ والإيمان بالحق الفلسطيني الإنساني الشرعي، كل ما فعله الامتداح الإسرائيلي للمسلسل أن أشعل النار بيننا، فتعاركنا نحن على المسلسل، والصهاينة أكاد أراهم من على مكاتبهم النجسة يضحكون منا وعلينا لسرعة استثارتنا ولسهولة بث نار الفرقة والخلاف بيننا. لا نحمل المسلسل أكثر مما يحتمل، على الأقل لحد الآن، ففيه من المشاكل الفنية والتقنية ما يكفيه، لا أراه أصلاً بالقوة التي يمكن معها أن يتحمل عبء الترويج للتطبيع أو التهمة المتعلقة به. دعهم يضبطوا بعض الحقائق الأساسية أصلاً حتى يذهبوا للتحضير لخطة تطبيع قوية. شاهدوا المسلسل، ولنتحدث عن الحقائق التاريخية للوجود اليهودي بيننا، ديانة لا نتعنصر ضدها، ونستطيع أن نفرق بوضوح بينها وبين الوجود الصهيوني كما نستطيع أن نفرق بين الإسلام والوجود الداعشي. دمتم أحراراً وتبقى القدس حرة أبية.