أمي
من ذاك الذي يمكن أن يحبك وأنت مجرد فكرة؟ من ذاك الذي يحلم بك قبل أن يراك، ويعشقك وأنت كينونة غير مرئية؟ مخلوق فريد هي الأم، تحب بغير شروط، تضحي بكل رضا، وحدها تتجرد من كل مصلحة، وحدها تتجرد نواياها إلا من تلك المحبة النقية الخالصة، محبة نادرة لا تحدث إلا مع انتفاخة بطن، ومع نقطة الدم تلك التي تستقر في الرحم، سيل جارف من الحب النادر النقي يستقر في القلب، وتبدأ الرحلة الرائعة الجليلة. أشياء أولى غاية في البساطة والطبيعية والروعة تأخذ مكانها على راحة يديها، فعلى كفها الناعم الحنون نرقد لنغفو أول غفوة، ننحني لنلتقط أول لقمة، نستند لنأخذ أول خطوة، إلى بقية «الأوليات» التي تقدمها اليد المعطاءة الرقيقة.
اليوم وأنا في التاسعة والثلاثين، سنة تبعدني عن الأربعين، لا أزال أرى ذات الانعكاسة الرقراقة في عينيها كلما رأتني. تلتمع عيناها ويصطبغ وجهها بشفق من حنان عندما أقبل عليها. تنظر إلي كما لا ينظر إلي غيرها، وكأنني المخلوق الأروع على هذه الأرض. أمي، هذه الإنسانة الغريبة الرائعة، تهدهدني كلما سمحت لها الفرصة، تأخذني في أحضانها فأعود في ثانية إلى الخامسة من عمري، كلما لملمت شعري وأخذت وجهي في صدرها، شممت رائحة طفولتي، دفاتر وأقلام وألوان وألعاب، ستائر وردية وعرائس بورسلان، فساتين كثيرة، كثيرة، حقائب ملونة صغيرة، كل تلك الأشياء بصورها وروائحها تحضرني في لحظاتي الهادئة في حضنها الكبير. أحب كثيراً أن أسرق قطعاً من ملابسها الأنيقة لألتحف بها في الأيام الثقيلة، لملابسها رائحة لا تزول، تريح قلبي يوم يثقل وتحجب عني حرارة الأيام يوم تشتد.
أمي، ليس لها مثيل في الدنيا. عندما كنت طفلة صغيرة، كنت أتطلع إليها بشغف وإعجاب، طويلة رقيقة رائعة الجمال، دوماً أنيقة، دوماً حنونة، الكمال كله يتجسد في هذه المرأة التي تلتف أيامي كلها حولها. واليوم، بعد أن امتلأت دنياي وتمددت أيامي لتحوم حول آخرين، مازلت أتطلع إلى هذه الجميلة الرائعة الخارقة بذات الإعجاب. أمي، فنانة مرهفة الإحساس، قارئة، مثقفة، شغوفة بالحياة، مليئة بالإيمان الدافئ، كيف يمكن النظر إليها دون أن تأخذني شهقة إعجاب طفولتي ذاتها. أمي، تلك التي علمتني أن أسرار الدنيا ستتكشف في الكتب، فغمرتني بها، التي أفهمتني أنني أجمل مخلوقة تلبس فستاناً على الأرض فأغرقتني بها، التي عاشت حياتها تثبت لي كل يوم أنني عقل أولاً قبل أن أكون جسداً، ثم علمتني كيف أحب كليهما وأزين كليهما وأحترم كليهما. إنها هي، جليلة رائعة رائحتها رائحة الياسمين، رائحة خاصة جداً بيني وبينها لا يشتمها غيري.
اليوم، وأنا أم لثلاثة اقتربت من فهم سر حبها وإن كنت لم أقترب ولو يسيراً من عظمة أمومتها. في كل لحظة يذوب قلبي حباً وأنا أرى صغاري حولي، أتذكر قلبها وحبها، فأجدني فقيرة مقارنة بها. في كل لحظة أضحي، أتألم، أقلق، أفرح من أجل صغاري، أتذكر آلامها وتضحياتها، قلقها وأفراحها، فأتضاءل وتتألق، وتنحني أمومتي احتراماً وتبجيلاً لأمومتها التي لم تتكرر ولن تتكرر.
إلى اليوم، عندما أقبل عليها يلتمع طرف عينها، تنسحب أنفاسها فخراً وحباً فتناظرني وكأنني المشروع الأكبر والأجمل على هذه الأرض. أمي… تلك التي ستحبني دوماً بلا حدود وبلا شروط، تلك التي مهما قسوت تسامح ومهما أخطأت تعفو، أمي، صديقتي وملجأي عندما تطردني الدنيا من رحابها. أمي، تقاطيع وجهها، رائحتها، ألوان ملابسها، كتبها، شكل أظافر يديها، أمي، وهي تأكل، وهي تضحك، وهي تحكي، أمي وهي تغني، وهي تصلي، وهي تدعو الله أن يرزقني زوجاً مثل أبي عند بيت الله، أمي التي تخبرني كل يوم أن زوجي مبعوث دعواتها، فيتمثل لي استجابة الخالق لقلبها المحب الرحيم، أمي التي مازالت تشتري لي الفساتين وأنا أخطو في الأربعين. أمي… كل أيامك أعياد، وكل الأعياد أيامك، دمت وبقيت يا موطني في غربات الدنيا. أمي… كل عام وأنت بخير.