أليس الوقت مبكراً على النسيان؟
مخاطرة بالحديث عن مأساة إنسانية ضخمة من زاوية خاصة شخصية، إلا أنني حقيقة لا أعرف كيف أتجاوز مأساة غزة إلى حياة طبيعية مئة بالمئة، وهل يحق لي، أو لأي إنسان يرى ويسمع ويشعر ويفكر، أن يتجاوز إلى حياة طبيعية لا تشكل فيها مأساة غزة سوى هامشها؟ أعرف أن الحياة تستمر وأن الحكم على الآخرين يحمل مخاطرة التفاف هذا الحكم ذات يوم على عنق مطلِقه، ذلك أن النسيان نعمة مفروضة وأن الاستمرار هو الطبيعة الإنسانية الغريبة وأن الأنانية البشرية هي الحماية “التطورية الداروينية،” هي الوازع الجيني (الطبيعي) الذي يجعلنا نفر بأنفسنا لننجو وبالتالي ينجو معنا جنسنا البشري. أعرف أن الدور قادم علي وعلى كل مكلوم بمأساة غزة بالتراخي والتخفف من الألم ولربما النسيان، وأننا مستمرين الآن وسنستمر بعدها بحياة أكثر طبيعية ورفاهية، فيم فلسطين بغزتها وضفتها وجولانها وخليلها وجنينها وكل شبر فيها مستمرين في المعاناة. أعرف كل هذه المتناقضات وأعرف أنه لا مفر منها.
مأساة غزة أكبر من كل مشاعرنا الشخصية، من كل تعبيراتنا وتفاعلاتنا وتأثراتنا الروحية، إلا أن في مأساة غزة بلا شك درس شخصي لكل منا، كشف حقيقي لأنفسنا أمام أنفسنا، اختبار فعلي لإنسانياتنا، تفاعلاتنا الذهنية، ومدى حقيقية إخلاصنا لمبادئ ومفاهيم نحكي عنها ونتشدق بها في مساحاتنا الآمنة. أطالع الصور الجميلة والتهنئات الرائقة بالسنة الجديدة على وسائل التواصل الاجتماعي وإلى حد كبير أحاسب ناشريها وإلى حد صغير، أخفيه حتى عن نفسي، أحسدهم حسد شرير، أتوق توقاً أنانياً لقدرتهم على التجاوز والنسيان والقفز إلى مرحلة الاستمرار الطبيعي من الحياة. لربما يفوق هؤلاء إخلاصاً وتفاعلاً مع وتبرعاً للقضية الغزاوية أمثالي “المتطرفين” مع المأساة، لربما هم أكثر حقيقية منا، إلا أنني رغم معرفتي الحقيقية بذلك، أنا غير قادرة على تجاوز سخطي عليهم وغيرتي منهم.
من حق الجميع أن يفرح بدخول السنة الجديدة وبتهنئة بعضهم البعض عليها، فلم يحوم شعور بالغرابة وسوء التصرف حول كل مظهر من مظاهر الفرح، حول كل تهنئة، حول كل صورة مبتهجة على انستغرام أو جملة ود وتمنيات تصل عبر الواتس آب؟ لماذا تبدو عوالم البشر متباعدة إلى هذا الحد، مكلومة بالغرابة والانفصام الشعوري والتخلي الإنساني؟ ألا يسود شعور حارق حالياً أننا في مأتم كبير؟ كيف نفتح الآن باباً للفرح، ومن أي دقة قلب، ومضة ضمير، لحظة راحة قلب دخل الفرح للمحتفلين ومكّنهم من تجاوز جثث الأطفال إلى الزمامير وقبعات الورق الملونة والهتاف احتفالاً بالسنة الجديدة؟ ما جديدها وجميلها وإنساني فيها نستقبله ونحتفل به؟
أعلم أنني أناقض ما أقول، فأنا على كل حال مستمرة بطبيعية حياتي، وبلا شك ستصبح حياتي أكثر طبيعية في الأيام القليلة القادمة، حين يقف صراخ التفجير الحقير على غزة وحين تبدأ حربها الحقيقية الحارقة لإعادة بناء البيوت والنفوس والقلوب والعائلات والحياة كلها بتفاصيلها الصغيرة، وحين يغيب الإعلام عن هذه المعاناة الحقيقية والحرب الطاحنة اليومية. أعلم أنني بحكم بشريتي وتركيبي الجيني سأستمر وأنسى وأحتفل وأعيش بطبيعية وأفرح وأحزن على توافه لا تقترب في أذاها من أقل درجات المعاناة الإنسانية لأقل مكلوم في غزة الآن، أعلم أن هذا قادم لا محالة بحكم أنني بشر ناقص جينياً وروحياً وضمائرياً، أعلم كل ذلك وأبقى منبهرة بهذه النقيصة الإنسانية الغريبة، وبتكرار حدوثها المستمر، وبأنني واقعة فيها لا محالة.
سننسى ولو جزئياً وسنستمر، لكن أليس الوقت الآن مبكراً على النسيان؟