أعراض مرضية
أحزن المحزن ليس هو الخلاف الذي بدا ضارباً بعمق بين جيران تربطهم روابط دم ونسب ولغة ودين وتاريخ وجغرافيا، أحزن المحزن ليس هو تأثير تهور اليوم على القادم في الغد من حيث الموازنات السياسية، العلاقات الاقتصادية، من حيث ثقة العالم في دول الخليج وإقبالها على عقد صفقات سياسية أو اقتصادية معها، من حيث التأثير على السياحة (إن وجدت)، من حيث التأثير على الشعور الداخلي بالاستقرار والشعور الخارجي بالثقة التي يجب أن تكون متبادلة على ضفاف هذا الخليج المنكوب، أحزن المحزن ليس هو اهتزاز الأسواق المالية وهبوط أسعارنا السياسية وضحك العالم كله علينا وكل دولة من دولنا بحجم مدينة صغيرة وفاتحة صوتها كأنها تملك مفاعلات تشيرنوبل، أحزن المحزن هو ما حدث لفننا وفنانينا، نعم، تلك هي نكبتنا الحقيقية.
للفن قداسته وحرمته، لا يمكن القبول بالتدخل تحديداً لسقفه أو تكبيلاً لكلمته، في الديار المتقدمة البعيدة عنا جغرافياً وزمنياً، تستخدم السخرية الفنية لتغيير سياسات وقلب موازين، للفن هناك قيمة ومقام والفنانون الحقيقيون يتحملون مسؤولية هذه القيمة وهذا المقام، مع عدم خلو هذه الديار من الفن الهابط كذلك والمهم وجوده ليعطي، بمقارنته، قيمة أكبر وأثرا أوقع للفن الراقي الجاد. ما يحدث في منطقتنا اليوم، ليس بين الحكومات، ولكن بين الفنانين هو محزن، ليس لأن التوقع هو أن ينشروا رسائل حب وسلام فارغة ولا تعبر عن الواقع، ولكن لأن ما يقدمونه هو عبارة عن مجموعة ردود أفعال تجاه بعضهم عوضاً عن نقد جاد حقيقي غير موجه، لأن فنانينا انحازوا للحكومات عوضاً عن أن ينحازوا للشعوب، لأنهم اختاروا أن يدافعوا عن سياسات بلدانهم وأنظمتهم لا أن ينقدوا الوضع الحالي بموضوعية لربما تساعد في ربطنا مجدداً كضحايا ومذنبين جميعاً وبالقدر نفسه.
قدم القصبي حلقة سلفي ضغائنية متواضعة فنياً أحدثت شرخاً عميقاً غير واضح مدى إمكانية تطبيبه وهي تضرب بشخصانية وانفعالية غير لائقة بالمستوى الفني للفنان أو لبرنامجه، ثم خرج عبدالعزيز الجاسم بمقطع طاعناً بالقصبي برداءة وهبوط، تراشق يحطم ليس فقط المعنويات الخليجية ولكنه يضرب إسفيناً بين الشعوب التي تتبادل محبتها لفناني إقليمها، ويهزم كذلك صورة الفنان القيمة التي طالما احتفظنا بها في قلوبنا. غانم السليطي أتى ليقدم أفضل وأرقى الصور النقدية وإن كانت توجيهية وتعليمية الأسلوب، إلا أن المقطع الذي قدمه لبيع مجلس التعاون الخليجي بدا انفعالياً وأتى كرد فعل، خصوصاً أن ضعف المجلس وصورية تعاونه هما حالة قديمة ما التفت إليها فنان في أوقات السلم (إلا ما ندر) وهي الأوقات التي كانت أنسب لاستقبال هذا النقد. أتى نقد السليطي في إسكتشه، الذي أراد فيه بيع المجلس الذي ما عاد مجدياً وإعلام «أعضائه الإخوة» يضرب بعضه البعض، ضعيفاً موجهاً خصوصاً أن أول إعلام بدأ بالضرب وسحب طرف الخيط منذ زمن هو إعلام الجزيرة. في ذلك الوقت كان الكل يتغنى بالمجلس و«إخوته» واليوم بعد أن دخل المجلس بأعضائه «مرحلة الشتات»، أتى نقد السليطي الذي بدا كرد فعل تلقيني الأسلوب موجه التوقيت ناقص الشمولية.
كل هذه الصور الفنية لها الحق في الوجود بالتأكيد، لربما هي مفيدة، على ألم استقبالها، من حيث تعريفنا بحجم المشكلة وعمقها والأهم من حيث إشارتها الحقيقية لركاكة العلاقات وهشاشة قواعدها. إذا ما لم يلعب إعلامنا دورا مفيدا في رأب الصدع اجتماعياً (وليس سياسياً)، على الأقل هو لعب دور (وإن كان مؤسفاً مؤلماً) في إيضاح عمق المشكلة وهشاشة الأرض التي نقف عليها. ما أوصله إلينا فنانونا هو رسالة مهمة: علينا أن نعيد حساباتنا جميعاً وأن نواجه أنفسنا بصراحة، المسألة ليست مجموعة أغان (كما قال السليطي) ولا هو سفر بالبطاقة المدنية، المسألة مسألة علاقات حقيقية تبنى ليس على أواصر وأخوة وحب ووحدة لغة ودين ودم وغيرها من المبادئ الشاعرية التي هي بالتأكيد تشكل متانة للعلاقات فقط، ولكن الأهم أن تبنى على أواصر اقتصادية متينة وعلاقات سياسية تحترم حقيقة الجيرة الجغرافية والتقاطع التاريخي، وأهم الأهم أن تعترف هذه العلاقات بوحدة المصير وتشابك المصالح وإن كان ذلك قسرا لا اختياراً بحكم الجغرافيا والتاريخ والتقاطع الكبير النَسَبي والدمي بين شعوب المنطقة.
كل ما أتى من أعمال فنية في هذه الفترة مخيب للآمال إما من حيث تواضعه أو سذاجته أو توجيهه، ولكنه، الفن الخليجي الحالي بمجمله، يبقى من أعراض مرضنا، وليس مشخصاً ولا معالجاً بكل أسف. نبقى ننتظر أن يفوق الخليج كله، وينظر إلى حافة الهاوية التي يقبل هو منطلقاً عليها. حفظكم الله جميعاً وكل عام والجميع بخير.