ستختفي فكرة الحب الأبدي، ولربما فكرة الزواج بأكملها، كنظام اجتماعي
أداء الزمن
لم تخطر لي، في مقتبل العمر، كما لا تزور الخاطرة غالبا معظم الشباب، فكرة تراكم الأحزان مع تراكم السنوات. لم أفكر قط كيف أن الأيام تمر حاملة تجاربها التي تضيف أحزانا إلى أحزان وتصنع فقدا فوق فقد، كيف أنه كلما امتد العمر وتكومت الأيام، امتدت معها جميعا احتمالية ارتفاع نسبة التجارب القاسية في الحياة وتراكمت معها الذكريات المؤلمة الحزينة.
في مقتبل العمر ننظر للسنوات القادمة بشوق كبير، ننتظر إنجازاتها وأفراحها متناسين تماما أن الرزمة واحدة، وأن الإنجازات والأفراح تأتي متلازمة والإخفاقات والأحزان، وأنه كلما ارتفعت نسبة الأولى، لازمتها الثانية بإصرار وإلحاح.
الآن، بعد أن اختبرت ما يزيد عن الأربعين من سنوات الحياة، أنظر للسنوات القادمة بتوجس، بكثير من الريبة والشك في حسن نواياها؛ فإنني أحاول أن أحيا بأفضل الطرق الاجتماعية والأخلاقية، إلا أنني فهمت تماما أن القدر لا علاقة له حقيقة بحسن الأداء الحياتي فيما هو يشكل حيواتنا ببروده وصرامته وحرقة موضوعيته.
القدر سيقع والمصاعب ستتراكم والأحزان سترتفع، مع تواتر السنوات لا محالة، مهما حسن الأداء وصفت النوايا. طالما نحيا سنفقد، وطالما تمر الأيام سنتألم، وطالما نتنفس سنعاني، هكذا هي الحياة الغريبة العدمية التي تستهزأ مرارا وتكرارا بملاحقتنا الدائمة للسعادة وبسعينا العصابي المستمر للبقاء والاستمرار.
نشر موقع تليغراف مقالا للكاتبة أوليفيا غولدهيل تتنبأ فيه بنتائج طول عمر الإنسان إلى مئتي عام، وهو الامتداد العمري المتوقع للبشرية خلال العقود القليلة القادمة. تقول الكاتبة إن نتاج هذا الامتداد العمري سيكون عددا من الظواهر المثيرة للاهتمام مثل ارتفاع نسبة التكاسل بين البشر نظرا لشعورهم بوفرة الوقت؛ سرعة تقادمنا المعرفي نظرا للتطور التكنولوجي الهائل الذي سيجعل حتى متوسطي العمر مجرد تحف أثرية قديمة؛ وارتفاع حدة صراع الأجيال والتي سيضطر خمسة منها للتعايش مع بعضها البعض مما سيحيل الحياة إلى معاناة مستمرة بين قيم الأجيال المختلفة.
إلا أن أكثر ما يثير الاهتمام هو تنبؤ الكاتبة بانتهاء مفهوم الرومانسية مع الامتداد العمري للبشر حيث أن فكرة الحب الأبدي، ولربما فكرة الزواج بأكملها، كنظام اجتماعي سيختفيان تماما.
حاليا، يرى العلماء أن معظم الشركاء في الحياة يعانون من الملل ومن صعوبة تحمل الشريك ما أن يصلوا إلى الستينيات من أعمارهم، حيث يرون أن تحمل الشريك لمدة عشرين سنة إضافية، حيث أن الثمانين هو حاليا متوسط عمر الإنسان، هي فكرة ثقيلة جدا. فما الذي سيحدث في حال امتد العمر إلى مئتي سنة وكان على الشركاء أن يتحملوا مئة وعشرين سنة إضافية من العيش سويا بعد بلوغهم الثمانين؟
تؤكد غولدهيل أنه “إذا ما أردنا أن نعيش لنبلغ المئتين من العمر فيجب أن نودع فكرة الحب الحقيقي. الزواج تكوين يحتمل الامتداد لعقود وليس لقرون”.
في اعتقادي أن هذا الامتداد العمري لن يقضي فقط على منظومات مثل الزواج أو الأسرة أو أي منظومة اجتماعية ارتباطية أخرى على المدى الطويل فقط، لكنه كذلك سيحجر قلب الإنسان وسيقضي على كثير من مشاعر التعاطف والتواصل الإنسانيين.
إن العيش لقرنين من الزمن يعني المرور تقريبا بثلاثة أضعاف حجم التجارب التي يمر بها الإنسان حاليا، ومع هذه الأضعاف الثلاثة من التجارب، ستتضاعف نسبة المعرفة بالحياة ونسبة اكتساب الخبرات والتجارب، وعليه ستتضاعف الأحزان ويتضاعف الفقد وتتضاعف المعاناة إلى أن يصل البشر إلى مرحلة التحجر والغياب التام للتعاطف الإنساني، حيث ستحل أنانية داروينية مخيفة محل هذا التعاطف وذلك سعيا للبقاء والمحافظة على الحياة بأقل نسبة ممكنة من الآلام والمعاناة.
لربما أحد أهم “توابل” الحياة هي حقيقة انتهائها، وامتدادها وتمططها من عقود إلى قرون، قد يميع هذه التوابل ويفقدها طعمها بعد حين.
لربما سيساعد التقدم الطبي والتكنولوجيا المستقبلية على مد عمر الإنسان والمحافظة على صلاحية ميكانيكيته الجسدية، ولكن هل من تكنولوجيا مرافقة يمكنها أن تحافظ على إنسانيته، على تعاطفه مع الآخرين، على قدرته على الاستمرار في محبة أهله وأصدقائه وحتى أطفاله؟ هل سيستطيع الحب والتعاطف أن يتمططا ليواكبا المئتي سنة التي سيعيشها الإنسان بأفراحها وأتراحها وتجاربها ومصائبها القادرة على إذابة المشاعر وتحجير القلوب؟
لا يبدو أن للزمن يد رحيمة لا على الجسد ولا على العقل، فلم سيكون أداؤه أفضل على المشاعر؟ لربما نقنع بالثمانين سنة الموصوفة لنا، فنملؤها حبا ونعبقها بالمشاعر والتعاطف، قبل أن نختفي ومعنا كل الأشياء، الملموسة والمحسوسة.