أبعاد الحياة الثلاثية
لا بد أن كل مشاكلنا البشرية، من أكبرها إلى أقلها شأنا، تأتي من نظرتنا الأحادية في الحياة، من تكوين عقولنا البيولوجي الذي يمكنها (أي عقولنا) من التفكير بشكل خطي ممتد في شيء واحد في وحدة الزمن الواحدة، تماما كما هي اللغة التي اخترعتها عقولنا البشرية وساعد في تشكيلها تطور بلعومنا وحنجرتنا.
اللغة وسيلة تواصل طولية، بمعنى متحركة في خط ممتد أوحد، فنحن لا نستطيع أن نقول عدة أشياء في ذات اللحظة، لا نستطيع أن نعبر عن الفكرة وعكسها في ذات اللفظة وبذات التعبير. هذه اللغة هي انعكاس لعقولنا، وهذه العقول هي التي تشكل واقعنا وحياتنا، وواقعنا هو الذي يشكل أفكارنا التي تبدو دوما وكأنها خطوط طولية متوازية، لا يمكن أن تلتقي أبدا.
تتباعد أفكارنا وتتوازى بواقع انفصال أجسادنا وعقولنا البيولوجي، فجلودنا التي تحتوي على كل أجزائنا، تفرقنا عن بعض وتفصل حقائقنا وحقيقاتنا، فتشكل أفكارنا التي هي أحادية الأبعاد، والتي قد تكون هي التكوينات المجردة الوحيدة أحادية البعد في عالمنا الذي لا يمكن أن يكون ويتشكل سوى بثلاثية أبعاد الأشياء.
كم هي مذهلة هذه الحقيقة: كل شيء في عالمنا، حتى نراه ونستوعبه، لا بد أن يكون ثلاثي الأبعاد، إلا أفكارنا، أحادية سطحية ومع ذلك مهيمنة تماما. إنها عجبة وجودنا البشري.
طرأت لي هذه الفكرة المعقدة (بعد أن عبرت عنها أعلاه، بدا لي ما كتبته غير مفهوم) وأنا أقرأ تغريدة لأحدهم أرسلها لي يقول فيها: “وفقك الله، وأرشدك لأخذ وقت ذهبي بمفردك بلا موبيل ولا غيره للتأمل والتفكير، وماذا بعد؟ وما هي نهاية الطريق، أدعوك لذلك تعزيزا لا تخذيلا فقد آن الأوان”. ومن نظرة سريعة على حسابه بدا تدينه واضحا، وبالتالي بدا هدف ومسار التغريدة بينا كذلك.
تأملت في هذه التغريدة مطولا لأجد أن ما تعكسه حول طرائق تفكيرنا البشرية تشير بوضوح إلى أجمل ما فينا كجنس على سطح هذه الأرض كما إلى أسوء ما فينا. في هذه التغريدة يبدو هناك توق حارق “لهداية” الآخر، لإنقاذه، لمحاولة سحبه من يديه إلى طريق “الحق” و”الخلاص”. إلا أن ذات التغريدة كذلك تعكس غطرسة غريبة، وإن كانت غير مقصودة، مفادها أن صاحب التغريدة يعرف طريق الحق وهو يسير عليه وهو المنقذ الذي يفترض به أن يذكر الآخرين حول هذا الحق ويشير لهم بإصبعه إلى طريقه.
فكرت أن أرد على التغريدة مشيرة لغرور كاتبها، فكرت أن أسأله ما الذي يجعله يتصور أنه على طريق الحق، وما الذي دفعه لاختياري أنا تحديدا كهدف إنقاذ، وأي أوان يشير إليه ولماذا يعتقد أنه قد حان وهو لا يعرف عني وعن حياتي شيئا؟ ثم أخذني حنين ما، شعرت بالمحبة والرأفة تجاه الكاتب وأنا أتذكر كل لحظات خيلائي ذات زمن، حين كنت أعتقد أنني على حق ما فأدافع عنه دفاع الصينيين عن حوائطهم المنيعة أمام هجوم المغول (تأثير مشاهدة مسلسل ماركو بولو هذه الأيام).
تذكرت اللحظات التي كنت متيقنة فيها تماما، وتوقي لأن أسحب معي أكبر قدر من البشر تجاه هذا اليقين، ليس فعليا لأنقذهم جميعا، فأنا لا أعرفهم شخصيا، ولكن لأصبح أنا المنقذة، ليصبح لي مكانا مميزا في الحياة. كان ذلك ذات زمن، حين كانت لدي قطعيات ويقينيات “لا تحتمل الخطأ”. التجربة اليوم علمتني أن لا وجود حقيقي ليقين أو قطعية، لا ساقين لحق مطلق، ولا عينين لحقيقة نهائية، كله نسبي، كله يتعلق متأرجحا في الهواء. هنا تكمن معضلتنا البشرية، وفي صعوبة إدراك هذه المعضلة وأسبابها وبالتالي التغلب عليها تتجلى كل مآسينا.
أنظر لفيديوهات مقتل جورج فلويد فينفطر قلبي على كل الأطراف، هذا الرجل الأسود الذي خسر حياته بسبب لونه، وهذا الرجل الأبيض الذي خسر حياته كذلك بسبب لونه. كل الأطراف ضحايا أفكار أحادية، يتوارثها البشر بإصرار وغرابة، مهما تقدم العلم لينفيها وتطورت المعرفة لتثبت غباؤها. كم أبيض في أميركا والعالم كله يعتقد بأن لون جلده هو انعكاس لجودة نوعه وتقدم عقله؟ ومن يؤمن بذلك أليس هو كذلك ضحية من نوع، ضحية أفكار مريضة موروثة أشد خطرا من لو أنه ورث خلايا سرطانية مثلا؟ أفكر كثيرا في هذا الشرطي قابع في زنزانته الآن، هل يرى نفسه مخطئ حقا؟ هل تجربته الفادحة تلك غيرت منظوره تجاه أصحاب البشرة السوداء، أم أن فكرة تفوق لونه، رغم إرادته وعقله ومنطقه، أقوى منه؟
مات فلويد كما مات الملايين من أصحاب البشرة السوداء في أميركا وحول العالم ضحية فكرة أحادية، صادقة وقوية وحقيقية لأصحابها، أن البشر الحقيقي هو الأبيض، وأن الأسود هو نصف بشر بنصف حقوق. يموت الملايين حول العالم بسبب دياناتهم، أصولهم، انتماءاتهم العرقية، طبقتهم الاقتصادية، ليس لأن “الفاعلين” كلهم مجرمون بطبيعتهم، لكن لأنهم مؤمنون بفكرة أحادية، لا يستطيعون أن يروا الخطوط الفكرية الموازية لها، لا يمكنهم أن يتصوروا أنها قد تكون أفكار دائرية مغلقة تلتف حول نفسها، فهم على متنها، يدورون معها ويلتفون في فلكها، معتقدين أنهم مستمرين في التوجه للأمام فيم هم يدورون حول أنفسهم وحول الفكرة حد الغثيان.
حين أسمع رأيا معاديا لعديمي الجنسية أو للعمال أو للمقيمين الأجانب في منطقة الخليج، القضايا الإنسانية الأهم في المنطقة، وهو الرأي الذي اكتسب قوة وصلابة وصلافة غير مسبوقين مع الجائحة، تفور نفسي بغضبي وتتوالى أحكامي سريعا على أصحاب هذه الآراء.
ثم أتذكر أنني لا أستطيع أن أرى خط فكرة المتحدث، لا أفهم فعليا سبب كراهيته العميقة وعنصريته المريضة. كل ما أعرفه أنها كراهية موروثة، ورثها عن محيطه، تسلمها من مجتمعه اللصيق، صنعتها له أمواله وطبقته. أشفق على نفسي عجزي عن أن أشعر تماما كما يشعرون، لو استطعت لفهمت، ولو فهمت لتوقفت عن الغضب ولقدمت شيئا مفيدا، وأشفق على الآخر عدم مقدرته على التواصل الإنساني مع الفئات المنكوبة من البشر، عدم مقدرته على التعاطف مع ظروفها، تلك الظروف التي فرقنا عنها ضربة حظ عشوائية.
كلنا مساكين، ظالمين ومظلومين. إلا أن مآسينا تختلف والأثمان التي ندفعها تتباين تباعا لظروفنا وأماكننا في الحياة. فلويد فقد حياته، الخسارة التي لا يعوضها شيئا أبدا، إلا أنه مات بطلا وأحيا ثورات إنسانية حول العالم أجمع، والشرطي الأبيض فقد سمعته وكرامته، الخسارة التي لربما يستطيع تعويضها لاحقا حين ينسى الناس فعلته لتصبح ماضيا بعيدا وحين يأتي هو فعل ما حسن في الحياة، إلا أنه سيموت لاحقا وهو موصوم تاريخيا، في رقبته كل الدماء النازفة والخسائر المتحققة والكوارث الملمة ببلده الآن.
خسارة الرجلان لا تتوافقان، وجزاء الشرير ليس من جنس عمله، فلونه الأبيض سيعطيه فرصة أخرى وسيخفف من مصابه رغم وصمته التاريخية، فيم لون فلويد كلفه كل ما يملك رغم انتصاره التاريخي. هل الوصم أو الانتصار التاريخيين عقوبة أو جزاء كافيين؟ لا أعتقد، هو قانون الحياة الذي لا عدالة فيه.
لا أحد فينا قادر على رؤية الزاوية الأخرى، لذا سنبقى على عهدنا كبشر، ظالمين ومظلومين، تتفاوت خسائرنا والأثمان التي ندفعها، إلى أن يتغير تكويننا البيولوجي، وتتسع مقدرتنا العقلية، لنتمكن في زمن ما وتحت ظروف ما من أن نرى الأبعاد الثلاثية للحياة.