تحميل إغلاق

كمامة

ترتديان كمامة خلال مشاهدة حفلا موسيقيا

كمامة

كنت أستمع لمقابلة مع الدكتور شفيق الغبرا، أستاذ العلوم السياسية بجامعة الكويت، يقول فيها ما معناه إنه بغياب حرية الرأي لن يكون لدينا فنا جيدا أو سينما جيدة أو صحافة جيدة، ذلك أن الفن أو الصحافة المحكومة بالخطوط الحمراء، يُضَمن الدكتور كلامه، لا يمكنها أن تنطلق وتبدع، ستكون دوما مواربة، خجلة، غير قادرة على الانطلاق في آفاق الخلق الإبداعي.

عَلِق كلام الغبرا في ذهني لأيام وأنا، مثل بقية العالم، أراقب تفشي فيروس الكورونا الجديد بين البشر دون أن يضع هذا الفيروس أي اعتبار للحدود الدولية أو سياسات الانعزال. قادتني المواضيع المتراكمة لتحري أمرين: الأول أن غياب حرية الرأي ينتج طبا سيئا، محكوم بسياسة سيئة ستقود لكوارث صحية وبيئية هائلة، والثاني أن من سيعاني من هذه الكوارث ليس فقط المجتمع الذي تغيب فيه حرية الرأي، بل إن البشرية كلها ستشترك في المعاناة وتكبد الخسائر.

ولطالما كنت معجبة بالنموذج الصيني الفلسفي والذي انعكس إيجابا على بعض جوانب النظام التعليمي عندهم، إلا أن كل فلسفاتهم الحضارية العميقة القديمة، وكل تطبيقاتهم لها في المجال التعليمي والعملي لم تفلح في حمايتهم جسديا وحقوقيا في غياب حرية الرأي والتعبير وغياب حرية البحث العلمي والنقد السياسي.

لطالما كنت منبهرة بالأهمية المعطاة للفن والأدب في مناهج الصين التعليمية بل وفي فكرة أن قبول الخريجين للمناصب الحكومية مرتبط بمدى ثقافتهم في المجالين، إلا أن ثمار هذا المنحى المهم جدا لم تنضج بسبب غياب الحريات، والتي بنقصها ينقطع الأوكسجين عن كل مناحي الحياة الأخرى.

تكثر الشائعات اليوم حول أسباب ظهور فيروس كورونا، إلا أن المعضلة التي تتكرر في كل سردية هي غياب شفافية الإعلان عن البحث العلمي وإصرار الحكومة الصينية على الاستمرار في إجراء أبحاث سرية في مختبراتها رغم تحذير بقية العالم من خطورة تسرب مكوناتها القاتلة.

إن التعتيم الذي يشمل الكثير من دول شرق آسيا وتكميم الأفواه “الرمزي” أوصل اليوم إلى هذا التكميم “الفعلي”، حيث تغطت وجوه معظم الصينيين في بلدهم، بل وحتى خارجها بفعل الخوف المستشري، بكمامة باتت وكأنها مؤشر على أصل المشكلة ونتيجتها في آن.

نعم للحريات مشاكلها ومصاعبها، إلا أن مضار قمعها تفوق بمراحل أي مضار للسماح بها، بل وتذهب للتهديد المباشر والفعلي للأرواح حتى في حال قبول المقموعين بأنظمتهم ورضوخهم لجبروت القامعين.

ركاب في محطة قطار في شانغهاي في الصين
ركاب في محطة قطار في شانغهاي في الصين

بكل تأكيد للعادات الغذائية والمعيشية في الصين دور ما في ظهور الفيروس، إلا أن السبب الرئيسي في انتشار هذه العادات الضارة هو الفقر الذي يحيق بهذه الأمة الضخمة، فالفقر يرفع نسب الأمراض والأوبئة والمشاكل البيئية ويرسخ للعادات الضارة ويسهل انتقال الأمراض بين أشخاص يعيشون متلاصقين بفقر غيرهم.

فقر يدفع لامتهان أي مهنة ولبيع أي شيء يمكن بيعه ولأكل أي شيء يمكن الحصول عليه لاستمرار الحياة، وكل هذه الـ”أي” أوضاع، لا تُنتِج سوى كوارث صحية وبيئية تهدد أرض مهددة أصلا بأنظمتها وفقرها كما وتهدد بشر (فصيل الهوموسيبيان في كافة أنحاء العالم) بأجسادهم بدائية التطور المرحبة بالفيروسات والبكتيريات التي تتغذى عليها، أجساد تحتاج للكثير من العناية التي تتكلف الكثير من الأموال لتؤمن لها عمرها القصير أصلا.

عودة للنقطة الأولى، لا يتحقق الفقر المدقع هذا إلا بارتفاع نسب الفساد، ولا ترتفع نسب الفساد إلا بغياب حرية الرأي والتعبير، نلف وندور ونعود دوما لغياب هذا الأوكسجين المهم الذي يحمينا رمزيا وفعليا.

إن الحريات المقموعة ليست شأنا داخليا للدول والمجتمعات، ومقاومة القمع ليس واجب الشعوب المقموعة بعينها، تلك هي مهمة الإنسانية جمعاء، ذاك هو واجب كل بشر يحيا على هذه الأرض، فبلا هذا التآزر الإنساني، سينقطع أنبوب الأكسجين ن آجلا أو عاجلا عنا جميعا؛ ستلحقنا الكوارث بنتائجها، وستقبض على ذيولنا التي سنجرجرها بنتائج القمع، التي تتمثل في الإخفاء والتستر، والذين بدورهما يرعيان المصائب والكوارث السياسية والاجتماعية والبيئية والطبية، والتي هي كوارث في النهاية ستحيق بالكل.

فهذه الكوارث، وتحديدا البيئية والصحية منها، لا تعرف حدودا مرسومة ولا أجواء محظورة، هذه ستنتقل إلينا عبر الهواء والمياه التي نتشاركها حول العالم لتبشرنا بالنتائج المهاجرة إلينا على أجنحة السكوت والخوف والتخاذل البشريين.

السكوت عما يحدث في اليمن فجر الكوليرا، السكوت عما يحدث في سوريا فجر تلوثات وكوارث بيئية غير مسبوقة، السكوت عن فساد جنوب أفريقيا، عن التعامل مع المنتج النفطي في الدول النفطية، عن مصيبة الروهينغا، عن كوارث سابقة كالحرب البوسنية الصربية والتطهير العرقي في رواندا، عن مجاعات جنوب أفريقيا، عما تفعله إسرائيل بالداخل الفلسطيني، كل هذه السكوت والتغطية، أمثلة لا حصرا، ستأتي لاحقا لتنهش في أجسادنا جميعا لا فرق بين من يعيش في جنوب شبه الجزيرة العربية ومن يعيش على أعلى جبال الألب السويسرية، ستأتي لتأكل بشريتنا وتترك عظامنا وهي رميم.

نعم، هو ما أرمي إليه: نريد أن نقضي على فيروس كورونا وما سيلحقه، نريد أن نحمي نوعنا ونحافظ على بقائه، إذا لا بد من فتح باب الحرية والشفافية في كل مناحي الحياة على مصراعيه.

اترك تعليقاً