تحميل إغلاق

معارك الجبناء

معارك الجبناء

كلما تأملتُ في رد الفعل العنيف والسفيه والتلفيقي تجاه الدكتورة نوال السعداوي والذي تلى نبأ وفاتها، تأخذني غصة مواجهة الواقع، هكذا سيكون مصير كل من يخرج عن طابور “آمين” المقدس، هكذا يودع هذا العالم العربي الإسلامي مفكريه المختلفين، الوحيدين القادرين على أخذه خطوة للأمام والدفع به يسيراً إلى دائرة النور، بزفة من اللعنات والشتائم، بحفل مزرٍ دموي يحتفي بفقده. أعوذ بالله منا أمة.

في هذا العالم القاتم لا مساحة متاحة للمختلف، هناك فكر واحد، تفسير واحد، واتجاه واحد، ومن يتجرأ فيطل برأسه، مجرد إطلالة خاطفة، خارج هذا الطابور، سيقتطف قطار الفكر الديني والعاداتي والتقاليدي الأوحد المنطلق بلا قيد أو شرط هذا الرأس “الوقح” الخارج عن الصف المنتظم.

لكن أن تطل برأسك خارج الصف، وأنت رجل، هي قصة مختلفة تماماً عن أن تبزغ برأسك وأنت امرأة، رأس المرأة هذا ليس مجرد رأس بشري، رأس المرأة ظاهرة دينية وبيان سياسي، شعره عورة، تفاصيله إغراء، وكشفه أو ستره هو موضوع الساعة وكل ساعة في مجتمعاتنا المتخمرة في ماضيها منذ ما يزيد على الألف سنة. ليس أسهل من محاربة المرأة في مجتمعات شعار “الجوهرة المكنونة”، كل ما عليك هو أن تنبشها من “كِنِّها” وتشير عليها، وسيتولى البقية المهمة “الشريفة”.

ولقد انهمرت اتهامات “الموالاة” على السعداوي فور ورود خبر وفاتها دون تقييم حقيقي أو تقدير واقعي لظروف حياتها الأخيرة أو لأسباب تهاون ولين خطابها الأخير تجاه السلطة. نعم، السعداوي لم تأخذ الموقف المعارض الصلب المتوقع من مناضلة سُجنت وهُجِّرت في عهود الأنظمة السابقة وبقيت تشارك في ساحات الثورة حتى الثمانين من عمرها، إلا أن أحداً من نقادها لم يقدر نضالها السياسي السابق الطويل الذي كلفها الغالي والنفيس على مر حياتها ولم يقيم الأسباب التي قد تكون أرخت لجام موقفها المعارض للسلطة.

للدكتورة السعداوي ماض أسود طويل مع الإخوان المسلمين الذين ما تورعوا عن إيذائها بشتى الطرق خلال مسيرة حياتها، وهو ماض له أكبر الأثر في تشكيل رد فعلها الأخير تجاه السلطة في مصر.

نسي الكثيرون كذلك أن الصورة السياسية كانت غائمة مع نهاية عصر مرسي وبداية العصر المتجدد للجيش. كان الوضع يبدو كأنه ثورة مضادة مع نزول الملايين من المصريين في الشوارع في 30 يونيو، أو على الأقل هذا ما أظهرته وسائل الإعلام المصرية وقتها، مما خلق صورة ثورة متجددة في أذهان العديد من المراقبين، ليتضح لاحقاً أن القصة أقرب لانقلاب عسكري بكل صوره وتبعاته منها لثورة، وهي القصة التي لا تزال مصر تعايشها وتعاني منها.

لربما لم تتضح هذه الصور المتداخلة للسعداوي، وربما هي أرادت أن تعيش بشيء من السلام في عمرها المتقدم في بلدها مصر، ولربما هي شعرت أن النظام الجديد أليَنُ “أذناً” تجاه آرائها وأقوى موقفاً تجاه قضايا المرأة.

ورغم طراوة معارضتها، إلا أنها بقيت تردد خطابها المعارض الحقيقي، مصرة على أن في جعبتها الكثير من الانتقادات تجاه السيسي كما ورد في مقابلة “بلا قيود” وقالت في رد حول ما إذا كانت السلطة تتواصل معها: “محدش يتصل بيا أبداً، أنا معنديش كباري مع السلطة أبداً أبداً، ولا بعد الثورة ولا قبلها، لأن أنا شخصية متمشيش مع القطيع”.

ورغم أنني كنت أتمنى لو أن معارضتها بقيت حادة قاطعة كما كانت في السابق، إلا أن للعمر أحكامه وللتجارب المريرة السابقة أثرها وتأثيرها التي يجب أخذها جميعها بعين الاعتبار.

لكن الهجوم الأكثر بشاعة على السعداوي أثناء حياتها وبعد وفاتها تجلى في تحوير نقدها الديني بطريقة رخيصة مسكينة، أو في تناقل هذا النقد “نميمياً”، دون حتى تكلفة النفس التأكد من حقيقة القول المنسوب لها. بحثاً عن اسم السعداوي على اليوتيوب تظهر لك فيديوهات تكاد لا تصدق عناوينها، لتدخل فتستمع للمقطع وتدرك التزوير الفاحش الذي يلصق بأحاديثها.

يضع أصحاب فيديوهات المقاطع المجتزأة من مقابلات السعداوي عناوين مثيرة لها، ليقوم حماة الدين بنشرها وتكفير صاحبتها اعتباطياً، دون تكلفة النفس حتى مجرد جهد فتح الملف والتأكد من فحواه.

إنه، مما لا يتطلب الكثير من الشرح والتبرير، أن توضع الدكتورة السعداوي على حافة هاوية مجتمعنا الداكن هذا، مخالفو الخطاب السائد بالعموم يعزلون وينبذون، وحين تأتي المخالفة من امرأة تكون المصيبة أعظم والعزل أشد والنبذ أمرّ، وتصبح المعركة رخيصة جبانة، يتخفى جنودها خلف السخرية من المظهر والتشكيك في السمعة والتهديد بالتكفير، وتشويه الآراء، وتأويل الكلام، والاعتماد على تناقل رؤوس العناوين الكاذبة تلميحاً وتصريحاً معتمدين على أننا “ظاهرة صوتية”* ننقل بكسل لزج دون تحقق أو تمحيص.

في الواقع، وصل الأمر أن يتم اتهام الدكتورة السعداوي بأنها تحرض على فحص عذرية المعتصمات إبان ثورة يناير، في حين أن أحد أشد أوجه نضالها قوة وأعنف كتاباتها اعتراضا وقسوة كان ضد هذه الممارسة البشعة، لكن ذلك لا يردع الكاذبين، الذين يعتقدون أن دفاعهم عن عقيدتهم يبرر استخدام حتى أوضع الوسائل وأكثرها رخصاً.

أكثر المجتمعات محافظة على وجه الأرض وأشدها تديناً وأكثرها تلبساً لثوب الأمانة والأخلاق هي، ويا للغرابة، أكثرها نشراً للأكاذيب وكسلاً عن التحقق في اتهام الناس في سمعاتهم وشرفهم وأشدها شتماً ولعناً للمختلف عنهم. أي أخلاق هي تلك؟ فعلاً، أعوذ بالله منا أمة.

 

*المصدر: “العرب ظاهرة صوتية” هو عنوان كتاب لمؤلفه عبدالله القصيمي.

اترك تعليقاً