تحميل إغلاق

ما عفريت إلا بني آدم

ما عفريت إلا بني آدم

أحياناً يبدو أن عالمنا العربي قد توقف عند القرن الرابع عشر، تجمد عند أول خطوة تخطوها البشرية في عصر النهضة، ليقف حيث هو متباعداً تماماً والخطوات التالية الحثيثة التي أخذتها البشرية باتجاه تطوير العلوم العامة والطبيعية والفنون والأهم علوم الفلسفة والقياس والمنطق والعقلانية. لربما هو قدرنا، أن نحيا في القرن الواحد والعشرين بعقلية القرن الرابع عشر غير قادرين على الفكاك من نقطة التجمد التي حبستنا، عاجزين عن أن نشعل شمعة تذيب شيئاً من الجليد الذي يقف بيننا وبين الضفة الأخرى من الحياة، ضفة نرى خيالاتها عبر وسائل التواصل والتنقل الخارقة، إلا أننا غير قادرين على تحمل مسؤوليات وتبعات الوصول إليها.
كنت أتحدث ومجموعة من الشابات حول موضوع الجن، حيث أصررن في معظمهن على حقيقة وجود وظهور الجن للبشر، وأن دليلهن هو القرآن الكريم. سألتهن وهن بشر القرن الواحد والعشرين، عن الحاجة لدليل أو مؤشر لإثبات الفكرة، إلا أن التفسيرات المختلفة الرائجة للقرآن الكريم والتي تقول بوجود وتخالط الجن كانت بالنسبة لهن ليست فقط كافية ولكنها ملزمة، الخروج عنها يعني خروجاً ذهنياً عن الشريعة والملة. حضرني ديكارت، فيلسوف القرن السادس عشر العظيم، الذي كان يقول إنه «في حين أن المنطق والقياس الاستدلالي العقلي… مفيدان في إيصال ما نعرفه أصلاً، أو… الحديث بلا إطلاق أحكام حول الأشياء التي نجهلها- فإنهما بلا فائدة حين يتعلق الموضوع بالتحقق مما هو غير معروف». يقدم ديكارت حلاً لهذه المعضلة من خلال تقديمه لعدد من الضوابط المنهجية للتفكير المنطقي: «رفض قبول أي شيء على أنه حقيقي إذا لم يكن واضحاً ومميزاً بحيث يتلافى كل شك، تفكيك الموضوع محل البحث إلى أكبر عدد من العوامل المتمايزة يمكن الوصول إليها، العمل بتسلسل من المفاهيم الأبسط إلى الأكثر تعقيداً، ثم من الأقل إلى الأكثر تيقناً». يبدأ ديكارت بأكثر الحقائق يقيناً ذاتياً، مثلاً وجوده هو بحد ذاته، وبالتالي يقول مقولته الشهيرة: «أنا أفكر لذا أنا موجود» (المعلومات من كتاب The Rhetorical Tradition للكاتبة باتريشيا بيزيل وآخرين).
بالتأكيد، تم «اتهام» ديكارت «بالكفر» حين كان عدم الاعتقاد تهمة عند الغرب، إلا أنه يمكن قراءة منهجية هذا الفيلسوف على أنها واحدة يمكن أن توصل لاستشفاف وجود إله لا التباعد عنه، كل المطلوب هو الشجاعة، شجاعة التفكير والدفع به إلى أقصى حدوده، تلك الحدود النائية البعيدة عن مصادر الأمان المعروفة عند البشر العقائديين أصحاب الحقائق المطلقة، حدود تتاخم الوجود والعدم وما قبلهما وما بعدهما ومعنى أو لا معنى كل ذلك.
اليوم ينتهج الغرب في الأغلب الأعم هذه المنهجية حتى في الحياة اليومية العادية. طبعاً، هذا لا ينفي أن كثيرين في الغرب يعتقدون بالخوارق والأحداث الماوراء طبيعية، وأن عدداً مهماً يعتقد بوجود الجن والأرواح وبتداخلها وحياة البشر، إلا أن تعاملهم مع الموضوع، رغم كوميدية الأسلوب، يدل على أنهم متأثرون كثيراً بالعقلانية الديكارتية. يعمد الغرب اليوم لخلق علم من دراسة القصص المخيفة وغير المفسرة، يطلق عليه من بين ما يطلق علم الخوارق أو Paranormal science كما أن «المتخصص» في هذا العلم يطلق عليه: باحث الخوارق، أو Paranormal Investigator أو المتخصص في التخاطر، أو Parapsychologist من بين تسميات لوظائف وتخصصات عدة في المجال. في البرامج التي تتعامل مع هذا الموضوع الشعبوي والشائق جداً للعامة، يظهر هؤلاء «المتخصصون» وهم يتحدثون بما تبدو لغة علمية مليئة بالمصطلحات المعقدة والتحليلات الرياضية والكيميائية الطبيعية، كما ويستخدمون ما تبدو أجهزة حديثة تستقبل ترددات صوتية مختلفة، حساسة تجاه درجات الحرارة والموجات الكهربائية إلى آخرها من وسائل التكنولوجيا، لتحول هذه التكنولوجيا وتلك اللغة، وإن وهمياً على الشاشة المرئية، موضوعاً بدائياً ماورائياً لا دليل عليه ولا حجة تسنده، إلى «علم» قيد الدراسة والبحث والتحليل.
يبقى الغربيون بشراً، كائنات بدائية بالكاد أخذت خطوة على طريق التطور الدارويني، لا تزال قيد المخاوف غير المبررة والمعتقدات غير المثبتة، كائنات لا تزال الماورائيات تحكمها ومعظم معتقداتها وتوجهاتها الحياتية، إلا أن النهضة الفكرية التي مرت بها أوروبا من خلال عقول أشخاص مثل ديكارت ولايبنتز وكونديلاك ولامي وموليير ولافونتان وراسين ورابين وروسو ولوك ومارغريت فيل وميري أستيل وماري وولستونكرافت، كبداية، انطلاقاً إلى آفاق أوسع من الفلسفة والنقد رسخت الحاجة عند العامة للدليل الملموس والإثبات الفعلي، وهما ما يحاول الغربيون دوماً توفيرهما حتى وهم يبحثون أكثر المواضيع سطحية واستحالة وبدائية.
محدثاتي من الشابات لم يجدن الحاجة لتوفير دليل، لم يرين أهمية الحجة التي قد يوفرها البحث العلمي أو التفكير المنطقي، «فالمنطق» الثيولوجي، وإن كان مصدره بشراً مفسرين للنص الديني، يكفي ويوفي كمعلومة ودليلها، كحقيقة وإثباتها، لا حاجة لحجة أبعد أو دليل أقوى. نحن شعوب تمتلك الحقيقة القاطعة والفكرة الأخيرة، لذا نحن أبداً لا نحتاج لأن نفكر ونتأمل ونتشكك ونراجع، نحن جاهزون بالحقيقة من المهد إلى اللحد، وما بينهما مجرد تمضية وقت. لذا، نحن لا نغير شيئاً ولا يتغير حولنا شيء، نحن كما نحن لأننا «جبنا النهاية» قبل أن نبدأ.

اترك تعليقاً