تحميل إغلاق

ليت المستور بقي مستورا

تظاهرة نسورية في لبنان

ليت المستور بقي مستورا

ذات زمن، بالنسبة لي، كان عبده خال الأديب العربي الأول، كان روائي ما بعد الحداثة الأكثر تأثيرا في عالمنا العربي. كان محيطا عميقا وكهفا غائرا وأفقا ممتدا، كل صفحة من صفحات رواياته كانت تأخذني إلى عمق النفس الإنسانية بكل جمالها، وبكل بشاعاتها.

حين قرأت له، أول ما قرأت، رواية “الطين” تعلقت روحي، وأصريت أنني وجدت العربي الذي سيحوز نوبل للآداب. وجدت في عبدو خال العمق النفسي عند الحداثيين واللامبالاة الموجعة عند ما بعد الحداثيين والتصوير الدقيق المؤلم عند التعبيريين والتعبير المشوش عند الانطباعيين، واليأس القطعي والحتمية الموجعة عند الطبيعيين الداروينيين، والأهم وجدت في كلماته عنف لوني يضعه في قلب حركة التوحشيين أو من يطلق عليهم Fauves، تلك المدرسة الفنية التي ظهرت في بدايات القرن العشرين لتعبر عن بشاعة (أو لربما جمال) الحياة الحديثة بألوان صارخة وأشكال هادئة في ذات الوقت.

كان عبده خال بالنسبة لي عقلية أدبية متفردة، حتى في عنفها وإيلامها للقارئ، وكانت جلسة حوارية، أو لربما استماعية من طرفي، معه هي غاية المنى، ولكن، يقول المثل احذر دائما ما تتمنى، وقد وقع المحظور وتحققت الأمنية وليتها ما فعلت.

لم تكن جلسة حوارية ولا جلسة استماعية، كان “تويتر”، غفر الله لمبرمجه، هذا الذي استحضر قلم عبده خال في كل وقت إلى عقر دورنا. كنت غاية في السعادة في البداية وأنا أمني النفس بالقراءة “الطازجة” لخال كل يوم، أول بأول، إلى أن انقلبت الأمنية على صاحبتها، وبدأ “تويتر” يكشف أكثر مما أود وأتمنى.

في البداية كان هناك شيء من الاستعلاء، أوعزته إلى الشاشة الزجاجية بين الأفراد، فهي توحي أحيانا بالكثير مما هو غير حقيقي. إلا أن قسوة غريبة وعنف لفظي بدآ يطفوان فوق كتابات خال، ذكراني بالقسوة السردية في رواياته والتي طالما أوعزتها للخيال التأليفي لا لطبيعة الروح.

تزامنا مع ذلك، ظهر انحياز واضح عند خال لصوت السلطة فوق صوت الشعب، فجاءت دفاعاته المستميتة مستدعية للتساؤل، من يصدق أن هذا هو ذات الرجل الذي كتب “مدن تأكل العشب”، مثلا؟ كيف يمكن الجمع بين الصوت الروائي المنتصر للضعفاء والمهمشين والمنبوذين والصوت التويتري السلطوي المنحاز تماما “للعليين”.

من أواخر ما كتب وأثار ضجة في “تويتر” كان ما أتى في مقاله حول عمليات التجميل والذي كان بعنوان “مستقبل فاسخ للعقد” حيث قال فيه “لماذا تقومين بكل هذه العمليات ما دام زوجك راضيا بك حتى لو كنت قردة؟ فيكون جواب هذه القردة، أتجمل من أجل نفسي. المغيب والمختفي من أسباب التجميل الجذري ما هو إلا رغبة في أن تكون المرأة محط أفئدة الرجال ولا يعنيها البقاء على ما هي عليه، ويمكن قبول هذا المنطق من فتاة لم تتزوج بعد وتريد استقطاب الرجال لأن تتزوج”، منهيا المقال بقوله “ومن الوصايا أن تبقي كل فتاة صورة لها قبل علميات التجميل حتى إذا جاء العريس الموعود صارحته بأن شكلها (هذا هو)، فإن قبل تم استكمال العقد، وإن رفض عليها البقاء في حالة انتظار إلى أن يأتي عريس الغفلة”.

وحين أتت ردود الفعل الناقدة المتألمة من القارئات علق خال “الردود العنيفة ـ تحديدا من السيدات ـ تؤكد أني وضعت الملح على الجرح، أهو قليل من الملح فعل الفعايل كيف لو أمضيت في مشروعي القادم عن بشاعة القادمات من السيدات الجدد؟ البشاعة أن تتخلى عن ذاتك”. ثم مضى يقول “أي امرأة ردت بعنف فهي في إحدى ثلاث: يا مبلطة نفسها بسرميك غليظ يا دميمة وتنتظر فرصة التبليط ـ استعدادا ـ يا مش لاقية ثمن التبليط ـ احترازا ـ أما الواثقة بجمالها وأنوثتها سوف (تطقطق) عليّ أو على مصانع البلاط وهي تردد: حولينا ولا علينا”.

في تناقض صارخ مع المفاهيم الإنسانية والحقوقية التي كنت أعتقدها تغمر كتابات خال، أتت تغريداته، مثل المذكورة أعلاه، لتفصل شخصية الكاتب عن الإنسان، ولتظهر خال على أنه ليس أكثر من مجرد رجل “ذكوري عادي” مثل الملايين غيره ينظر للمرأة بعين ذكورة مسكينة يعتقد من خلالها أن كل ما تأتيه المرأة يستهدف رضا الرجل وأن كل همها هو “استقطاب زوج” عليها أن تبقى في “حالة انتظار” له.

عبد خال (الصورة من حسابه في فيسبوط)
عبد خال (الصورة من حسابه في فيسبوك)

الأسوأ أن هذه التغريدات أظهرت أن خال في الواقع ليس سوى إنسانا متهورا سليط اللسان منفلت الأعصاب يصف من لا يعتقدها جميلة “بالقردة” ويستخدم تعابير مثل “عريس الغفلة” و “مبلطة نفسها” و “دميمة” في عارض ردوده مع تفاعلات قارئاته. إذا ما لم يستطع المثقف أن يتحكم في أعصابه ويحسن تواصله ويضرب مثلا في أدب الرد والقدرة على التحكم فيه، فمن يفعل؟

آخر ما أثار القراء على “تويتر” كانت تغريدة خال المقارنة بين مشاعره تجاه وفاتين قال فيها: “أن أتلقى خبر موت المترجم الكبير صالح علماني والمطرب الشعبي شعبان عبدالرحيم في نفس اللحظة جعلني بين التبجيل لأحدهما كقامة ثقافية عالية وبين استخفاف بأداء مطرب متواضع. الموت جمع التبجيل والاستخفاف في مشاعر حزن فياضة، فكيف لقطار الرحيل الجمع بين المتناقضين؟”.

لا يبدو معقولا أن تكون روايات خال على ما هي عليه من العمق وأن تخلو تغريداته من لمحة إنسانية معقولة، من احترام لحالة الموت التي لا يمكن أن تحتمل مقارنة مترفعة كالتي ساقها هو، بل لا يبدو معقولا أن يكون وفاضه الفكري خاليا تماما من فهم لقيمة الفنون الشعبية بأنواعها ومستوياتها أو على الأقل من تواضع فكري ومفاهيمي حين تقييم الأعمال الفنية، فالنقد الحديث مبني في عمقه على انفتاح الساحة على كل أنواع الفنون اليوم وعلى فكرة أن الأحكام القطعية بأن هذا العمل “جيد أو سيئ” هي أحكام نسبية ساذجة قديمة ضيقة الأفق، غير قادرة على رؤية المعنى الأوسع للفنون والأثر الأعمق لأنواعها المختلفة.

لست هنا أقول بعدم أحقية خال أو غيره في تقييم الفنون، ولكن أحكام خال المطلقة المترفعة وبألفاظها القاسية دون مناسبة تستدعي هذه القسوة كتلك التي أرفقها بتعزيته هي أصغر بكثير من فكر وتقييم وتعبير الأديب الإنساني الحقيقي.

وحين لامه قراءه على التغريدة انطلق غضبه في كلماته مجددا، مدعيا أن القراء استعجلوا ولم يكملوا التغريدة التابعة (والتي ما ورد فيها أكثر من ترحم على الرجلين)، معلقا في إحدى تغريداته قائلا “أجارنا من غبائكم”، وفي أخرى واصفا “معظم الناس معبئين ملحا” ثم معيدا إرسال تغريدة فيها مقولة لفريدريك نيتشه تقول “قد يجرحك كلام أحد السفهاء، لكن تذكر أن الصواعق لا تضرب إلا القمم”.

لربما يمكن للأديب أن يكون نرجسيا فظا غليظ القلب بل وعنصري كذلك، ولكن ما لا يمكن هو الاستمرار بالتواصل الإنساني القرائي معه. ودون أن أدعي أي أهمية لي كقارئة لعبده خال، إنما أحكي عن تجربتي الإنسانية هنا فقط، لا أدري إن كنت سأستطيع فعليا أن أقرأ عملا جديدا لخال بعد اليوم، وإن فعلت، لا أدري إن كنت سأستطيع أن أقرأه بذات الروح، إن كنت سأتفاعل وأحلل وأتألم وأفكر معه بذات العقل والقلب.

كيف يمكن أن يكون هذا المغرد الفظ هو ذاته عبده خال، هو ذات الإنسان الذي كتب “الموت يوم من هنا”، “ليس هناك ما يبهج”، والعمل الخارق “لوعة الغاوية”؟ هل استبد “تويتر” بخال فأخرجه عن طوره الإنساني والحسي والعاطفي؟ هل حررته الشاشة الزجاجية من ذاك الخجل الذي يصنعه التواصل الإنساني المباشر فأطلقت له يد القسوة؟ أم أن “تويتر” كشف رجلا لم نكن نعرف، رجلا اختبأ خلف موهبة أخفت كل ذاك الذي ما كان يجب أن نعرفه، ما كان يفترض بنا أن نعرفه، ما ليتنا ما عرفناه قط؟

اترك تعليقاً