في الخوف والغضب وقلة الحيلة
حضرت قبل فترة مؤتمراً حقوقياً للناشطين الحقوقيين العرب، الذي إن عبرت أجواؤه عن شيء تعبر عن الخوف والكبت الساكنين في النفوس العربية، وعن الغضب والأسى المستقرين في أعماقها. تداول الحضور مخاوفهم ومآسيهم والانتهاكات التي تمتهن حياتهم، حتى تبدى وكأن الجميع يجري في مضمار ضيق مخنوق، كل يصرخ في دربه المجوف، وكل يسمع ويميز تردد صدى صرخات الآخرين. جذبتني تحديداً كلمات إحدى المتحدثات التي أشارت إلى حقيقة تشابه طبيعة الانتهاكات الحقوقية في عالمنا العربي، وإن اختلفت درجتها، كما ناقشت طريقة وأثر انعكاس هذه الانتهاكات على السيكولوجية العربية.
قالت المتحدثة من ضمن ما قالت، إن المعاناة العربية والانتهاكات الحقوقية الآخذة في حفر طرقها على الأجساد وفي الأرواح هي، رغم تشابهها، ليست عرضة للمقارنة، وهي ليست مسابقة يفوز بها من يستحضر كمها الأكبر من بقعته العربية، وهي وإن بدت أقل خطورة في بعض المناطق، فلا تزال خطيرة جداً، ولا يقلل من خطرها وفداحتها والحاجة الفورية للتعامل معها تجاورها، إبان المؤتمر، بما قد يبدو أشد منها وأنكى.
ترجرج صوت المتحدثة عند الوصول لمناطق معينة من حديثها، كان الألم أكبر من احتمالها، أو هكذا تبدّى المشهد، إلا أنها سرعان ما نوهت أن غصة البكاء تلك هي مصاحبة للحظة الحرية القائمة لهذه الفسحة من الهواء لتقول ما تريد؛ لأننا، قالت بما معناه، ببساطة غير متعودين على الانطلاق في التعبير، وحين تتجلى الفرصة يصبح أكسجينها أقوى مما تحتمل رئاتنا المتعبة، فتنهج الصدور وتترقرق العيون وتنطلق المشاعر حزمة من الحزن والغضب والفرحة الآنية، وطبعاً تأنيب الضمير، كلها في آن.
دوماً تأنيب الضمير مصاحب للناشط العربي، فهو لم يفعل كل ما يستطيع، وهو لم يقل كل ما يجب أن يقال، وهو محمي بخوفه، مأذي بشجاعته، محروم من استقراره، آذ لأهله وعائلته. الناشط العربي «كلمنجي»، بس يحكي، وليس في يده الكثير ليقدمه، ما يبديه دوماً في مظهر «المتظاهر» عوضاً عن «الفاعل». الناشط العربي عينه بصيره ويده قصيرة، وهي اليد التي إذا ما طالت، طالته أيادي السجانين، وحوطته قوائم المنع من الدخول لكثير من الدول العربية الأخرى، وأسرته كلماته في أسر الخوف الدائم و»قلة البخت» الملازم له مدى الحياة.
نحن نحيا في منطقة تتنافس فيها فداحة المعضلات لا جودة الحلول، نبدو أحياناً في اجتماعتنا الحقوقية بل وحتى تجماعتنا الاجتماعية العادية وكأننا نزايد بآلامنا وأوجاعنا والمخاطر التي تقطع سبل حياتنا بعضنا على بعض، رغم أن هذه المزايدة غير مقصودة وهي ليست هدفاً لأحد في يوم. تأكل أرواحنا قلة الحيلة وضعف مجتمعاتنا المدنية وشكلية مؤسسات النفع العام فيها. حقيقة الأمر أننا مهما بلغ مبلغ مدنية المشهد وديموقراطية المؤسسات التي تزينه، فكلنا نحيا في سراديب سياسية عشائرية تحكمها العلاقات الذكورية والمفاهيم القبلية للطاعة ولأبوية المسؤولين.
اعتدنا الأحداث الحارقة والانتهاكات المستمرة، فلم تعد هي تحديداً المثيرة للانتباه. اعتدنا الخسارات الشعبية المستمرة أمام القوى والأنظمة السياسية، فلم تعد هي تحديداً موقع التحليل والتمحيص. المثير للانتباه، على الأقل بالنسبة لي في هذا الاجتماع الأخير الحزين، هي تلك السيكولوجية الغريبة التي سيطرت على الحضور، مشاعر ملحة من الخوف والألم والغضب وتأنيب الضمير. هكذا هم الناشطون: إن أمعنوا تعرضوا وأسرهم للخطر، وإن امتنعوا بدوا لأنفسنا والآخرين جبناء مقصرين. شخصياً، لطالما آمنت بها ورددتها: إن لم تكن مستعداً لإصابات الطريق الحقوقي الوعر ولم تكن متقبلاً للخسارات الاجتماعية والاقتصادية والعملية للسير في دروبه، فلا تخط فيه؛ فهو في عالمنا العربي حيث الناشط مكشوف دون مؤسسة مدنية نفعية تحميه أو مجتمع مدني يسند ظهره، ليس بدرب لرقيقي القلوب مرهفي المشاعر. فإذا كنت دوماً ما أؤمن بهذه المقولة، فما بالي اليوم أخطو خطوة للأمام واثنتين للخلف؟ ما بال الخوف يمسك بتلابيب الروح والحذر الفائض يغلق شبابيك النفس عن كل نور؟
أشعر، كما كل الناشطين، بالجبن وقلة الحيلة وعدم الاستحقاق، عدم استحقاق لقب الناشطة الحقوقية التي يفترض بها أن تكون أكثر تماسكاً وأقوى وأصلب عوداً. لكن الحقيقة تبقى أننا ننهزم أمام ظروفنا كل يوم، وعلى هذه الخلفية من الانهزامات تتبدى غزة بكل أوجاعها، فيزيد الخوف خوفاً والغضب غضباً والانهزام انهزاماً. كيف ننشط من أجل قضايانا والخوف والضعف يمسكان بتلابيبنا، كيف نفكر في أوجاعنا وفي الخلفية غزة، أكبر وجع إنساني في القرن الحادي والعشرين؟