فلسطين عالمية
في ظل الغضب والألم والعذاب الناتجين عن هول ما نرى ونسمع منذ سنوات طويلة، وصولاً إلى جرائم الإبادة غير المسبوقة السيريالية الوحشية الواقعة مؤخراً على غزة، قد يغيب أحياناً عن بعض جموع العرب والمسلمين أهمية نوعية وتشكيل الخطاب الذي يفترض أن يواجهوا به العالم خصوصاً في اعتصاماتهم الجماهيرية المعبرة. وعلى حين أن عذاب العين والأذن والقلب مفهوم كدافع للهتافات الصادحة في المظاهرات، وأتكلم بالخصوص عن تلك التي سمعتها وشهدتها بنفسي في الكويت مؤخراً، إلا أن الاستمرار بهذا الخطاب “الضيق” لطالما أخذ القضية إلى منطقة محددة، محرراً بقية العالم من دوره الإنساني المُلزم والمفروض.
ليس الصراع في فلسطين صراعاً دينياً، كما وأنه ليس صراعاً عرقياً. ليست المعركة، ولا يجب أن تكون، معركة عرب ومسلمين في مواجهة الغرب “بيهوده ونصاراه” ذلك أن هذا التحديد وذلك التقييد هما أولاً خاطئين تماماً، وثانياً ظالمين شمولياً للقضية وللمسؤولية الإنسانية الناتجة عنها. إن رسم الصراع على أنه نضال إسلامي في مواجهة أديان أخرى هو ابتعاد عن واقع وتاريخ، ذلك أن القضية لم تبدأ باعتداء يهودي على مسلمين، فاليهود والمسلمين والمسيحيين كانوا يحيون بسلام ومودة جنباً إلى جنب على الأراضي الفلسطينية حتى عشرينيات القرن الماضي، بل إن معاملة اليهود في فلسطين والمنطقة العربية بأكملها كانت على أفضل ما يكون ولا تقارن أبداً بما عاناه يهود أوروبا من عنصرية الشعوب الأوروبية. وعليه، يجب التأكيد على أن حركة النزوح اليهودي من أوروبا إلى فلسطين ما كانت سوى حركة صهيونية أرادت بها أوروبا التخلص من يهودها أولاً، وترميم الكارثة الإنسانية التي خلقتها المذابح النازية ثانياً، ليتم كل ذلك بمخطط صهيوني سياسي يقوده “جهد” بريطاني كان مرفوضاً من الولايات المتحدة في بدايات القرن العشرين في الواقع، وتلك قصة أخرى. إن الغطاء الديني الذي تعتمده الحركة الصهيونية اليوم لتغطية وجه استعمارها المتوحش البشع إنما هو غطاء مزيف فاشل، والدليل وقوف اليهود المتدينين بحد ذاتهم ضده، مؤكدين على أن محاولة “خلق” أرض يهودية” هو مخالف لتعاليم الدين من جهة واعتداء على أصحاب الأرض الأصليين من جهة أخرى.
هذه الضبابية الثقافية التاريخية لأساس القضية الفلسطينية تقود إلى ضبابية أشد منها والتي تتشكل في وضع مسؤولية تحرير الأرض والدفاع عنها على عاتق المسلمين دون غيرهم. إن تحديد الصراع على أنه إسلامي عربي يصغر من دائرة المسؤولية، ويتواضع بالجريمة التاريخية التي لم يصنعها اليهود كفئة، وإنما صنعتها أوروبا مستخدمة يهودها لخلق هذه المعضلة الإنسانية المخزية. نعم، اليوم يبدو الصراع إسلامياً يهودياً، حيث تستخدم إسرائيل الغطاء الديني لخلق شرعية لوجودها، إلا أننا لا يجب أن ننزلق في هذا المنزلق الوعر، فنحرر بقية العالم من مسؤولياته ونبرئه من مساهماته في جريمة الاحتلال الأبشع في القرنين العشرين والواحد والعشرين. فلسطين أرض مهدت لكل الأديان، وبهذه الحسبة، كل أصحاب الأديان لهم حق فيها. إلا أن فلسطين دولة مدنية كذلك، كانت وإلى بدايات القرن العشرين دولة تقترب جداً من اكتمال شكلها المستقل، يتعايش فيها كل أصحاب الأديان بسلام كمواطنين وهذا هو الشكل الذي لابد أن نبقى نذكر به ونصر عليه. ويبقى أن نسأل، لو كانت فلسطين مأهولة كلياً بالمسيحيين في بدايات القرن العشرين مثلاً هل كان توجه الحركة النازية ليكون مختلفاً؟
ليس الهدف طرد اليهود من فلسطين، لا هذا مطلب ممكن ولا هو عادل، إنما الهدف هو طرد المحتل النازي من الأرض الفلسطينية التي يملكها شعب سكنها لمئات، إن لم يكن لآلاف السنوات قبل الحركة الأوروبية الصهيونية النازية التي باعت أرضاً ليست أرضها وضحت بشعب ليس شعبها على ضريح جرائمها السابقة. فلسطين عربية نعم، لكنها ليست قضية العرب فقط، وفلسطين إسلامية، قد تبدو ديموغرافياً كذلك اليوم، لكنها في الواقع مهد الأيان المختلفة وهذا ما يميزها بتنوع وجمال غير مسبوقين. فلسطين قضية كل العالم، كل إنسان على سطح هذه الأرض معني بفلسطين إذا كان معنياً بالعدالة واحترام الحقوق، إذا كان ملتزماً بالقوانين الحديثة والمفاهيم الحدودية ومبدأ استقلالية الدول المدنية، وإذا كان خائفاً على نفسه وأسرته وموطنه أن تدور عليهم دوائر “الكارما” فيلتف على رقبه وأسرته ذات المبدأ الذي قبل به. كل إنسان، مهما كان انتمائه العرقي أو الديني، مسؤول عن البشاعة المصورة اليوم في فلسطين، معني بانهاء الظلم ومكافحة الوحشية، ببساطة لأنه إنسان، لأن القيم الإنسانية التي تشكله قلباً وقالباً يفترض ألا تجعله يقبل ولو للحظة جرائم التطهير العرقي والإبادة الإثنية والقتل الجمعي للمدنيين والتعذيب والأسر والطرد والحرق والتشريد التي تحدث بشكل يومي ومستمر وعصابي على أرض فلسطين بدرجة وحشية غير مسبوقة وبتجاهل عالمي-حكومي وقح غير مصدق. فلسطين عربية، هتاف مستحق مقبول، فلسطين حرة هتاف ينبض في القلب، أما فلسطين إسلامية، فهذا هتاف يستوجب المراجعة، فهو يخسرنا الكثير داخلياً وخارجياً، وهو يحرر بقية العالم غير الإسلامي من واجبه، وهو في اتقاد ترداده يتناسى شهداء كنيسة غزة وغيرهم من المسيحيين الذين قدموا أرواحهم فداءاً للوطن تماماً كما قدمها المسلمون.
لا يجب أن نسمح للأعداء المجرمين أن يحيدوا ببوصلتنا عن اتجاهها الصحيح ولا أن يخلوا بموازنة ميزاننا. فلسطين قضية كل إنسان على سطح هذه الأرض، لا دين ولا عرق ولا بعد جغرافي سيعفون أحداً من السبعة مليار إنسان من مسؤوليتها.