صدأ
جلس بجانبي بدفئه الحنون، هو دوماً دافئ، قلبه، جسده، يداه الرحيمتان، كل شيء في أبي دافئ رحيم. اعتدل في جلسته على عادته عندما يبدأ بحديث يودنا أن نصغي له، عقف غترته فوق رأسه على الطراز القديم، عقفة رأيتها في صوره القديمة وأراها من وقت لآخر فوق رأسه في البيت، عقفة تذكرني بالأحمدي القديمة ورحلات بحر كانت له واجهة فسيحة غير مليئة بعلية القوم أو بمن لديهم حظوظ لديهم. عندما يعتدل أبي تستنفر أذناي، أعلم أنني سأسمع شيئاً مجيداً لن أسمعه مجدداً، فهو يقول مرة ولا يكرر، هكذا هو هذا الرجل المبجل، وهذه هي صورة الإنسان التي تعلمتها عنه ونسختها عن تعابيره.
“نحن لم نحسن استقطاب من يحبها”، قال أبي وهو يحكي قصصاً عن مقيمين قضوا ثلاثين أو أربعين سنة من أعمارهم في الكويت حتى لم يعودوا يعرفوا وطناً غيره ولا أهلا غير أهله، ليُسَرحوا في النهاية بورقة نهاية خدمة. حكى أبي عن رجال غير كويتيين تعلم منهم، مدرسيه في الثانوية ولاحقاً زملاء يكبرونه سناً من المحامين. بينما يحكي والدي تذكرت ذات زمن وأنا مراهقة صغيرة أن غضبت لأن والدي أمرني ألا أستعين بعاملة البيت وأخدم نفسي بنفسي. لا يمكن أن أنسى كلمات والدي لحظتها “الزمن غدار يا بنية، ذات يوم لربما ترين نفسك تخدمين في بيت ما في الهند، فلا تترفعي وافهمي حظك من الدنيا”. هو والدي الذي لا يلبث يذكرنا أن الحياة أكرمتنا بدفء الوطن وبواجبنا تجاه من يعاني برودة الغربة، والدي الذي بقي يأخذنا لنزور مربيتنا الأولى حتى بعد زمن طويل من مغادرتها لنا، والتي لا يزال معاشها التقاعدي سارياً لها، ينحني عليها ترحيباً ونفعل مثله خاشعين جميعاً أمام ذكرى أفضالها. وفي حضرة تواضع أبي وشعوره بالعرفان، يأخذني شعور بجمال الإنسانية، التي هي جزء من تكويننا كبشر، وهي تتجلى في هذا الرجل الشاهق، في ضميره الذي لا يغفو، في عرفانه الذي لا يخبو، في وفائه الذي لا أعرف له مثيلا.
لذلك، وإن اتهمت بالمثالية وعدم الواقعية، لكم أن تتخيلوا قرائي الأحبة شعوري وأنا أستمع لصوت يخاطب المشاعر الجمعية العامة، والتي هي، في كل مكان في الدنيا، مشاعر متهورة، تدغدغها أقل الإغراءات، يحركها الصراخ، تستثيرها العنصرية والطبقية، خصوصاً وهي كلها مغلفة بمفهوم مصلحة العامة، ثم ملفوفة بورقة السيلوفان المخادعة للوطنية ورخاء المواطنين. ولأنها تريد أن يعاد انتخابها مرة أخرى، فليكن الضرب على الورقة الرابحة، ورقة الوافدين الذين يجب أن يدفعوا ضريبة استخدامهم الشوارع، وعمولة تحويلهم لأموالهم خارج البلاد، وقيمة أدويتهم لعلاج يدفعون تأمينه الصحي مسبقاً. ليس مهماً ما قد يفعل ذلك بالتركيبة الاجتماعية للكويت وبنوعية الخدمات التي ستنتج عن هذه الاقتراحات ولا حتى بنفسية الثلاثة ملايين الذين يعاشروننا على هذه الأرض وما سيحيلهم إليه هذا الخطاب من عزل وبعد وشعور بالمهانة. ليس مهماً صحتهم البدينة ولا أمنهم النفسي، ليس مهما الراحة التنقلية والقدرة المعيشية، وإذا كانت كل هذه غير مهمة، فبكل تأكيد غير مهمة هي مبادئ العرفان والوفاء وغير ملزمة هي ولا واقعية المبادئ الإنسانية، كل تلك حبر على ورق، مجرد كلام إنشائي، مثاليات لا قيمة لها، المهم هي أن يعاد انتخابها، وسيكون ذلك، وستعود ويعود خطابها معها، وسيبقى يتردد لسنوات طوال، حتى يغيرنا ويبدل عمق طباعنا الإنسانية الوفية، يفسد علاقاتنا ويعكر استتباب استقرارنا الاجتماعي مع مقيمينا. وستبقى تتحدث ونبقى نصوّت وتبقى تفوز ونبقى نصدأ نحن من الداخل، قليلاً قليلاً كل يوم.
احك يا أبتِ، حكاياك تنظف قلبي وسمعي من الرذاذ اللزج وتجعل الاستمرار ممكناً، احك يا أبتِ ولا تتوقف.