تحميل إغلاق

سقطت التفاحة.. فكانت الفكرة

ادرسي الأدب والفنون، ستحظين بفرص عمل ممتازة، ادرسها وستكون إنسانا أفضل، أقل عنصرية، أكثر فهما للتنوع الإنساني وأقوى تمييزا لقيمتك الحقيقية كبشر منمنم وكوجود عظيم

سقطت التفاحة.. فكانت الفكرة

أعمل هذه الأيام على كتابة ورقة عن أهمية الأدب والفنون كمجالات ليست فقط دراسية ولكن كذلك عملية، أي كمجالات عمل ومصادر دخل للمتخصصين فيها.

في مقال نشر على BBC بعنوان “Why ‘Worthless’ Humanities Degrees May Set You Up For Life” تقدم الكاتبة أماندا روجري تحليلا مفصلا حول أهمية هذه التخصصات الأدبية غير المقدرة حق تقدير ليس فقط على المستوى الإنساني ولكن كذلك على المستوى العملي.

تشير الكاتبة إلى أن الكثير من الشركات اليوم تسعى لتوظيف خريجي العلوم الإنسانية وذلك لارتفاع الحاجة لهؤلاء البشر القادرين على التحليل والفهم والتعاطف الإنسانيين، هؤلاء القادرين على فهم سيكولوجية الآخر والتعامل على أساس من ردود الأفعال المبنية على هذه السيكولوجية.

تعطي الكاتبة مثالا من شركة أوبر الآخذة في توظيف خريجي العلوم السيكولوجية وذلك لفهم نفسية الركاب غير السعداء. كذلك تقدم مثالا آخرا من شركة أوبن تيبيل (شركة إنترنت مختصة في حجز طاولات في مطاعم سان فرانسيسكو) والتي تسعى لتوظيف خريجي قسم الأدب الإنكليزي وذلك لقدرتهم على استحضار البيانات لأصحاب المطاعم لتحفيزهم على استخدامها ولتبيان الكيفية التي ستخدمهم بها هذه البيانات.

يقدم المقال تفصيلات رقمية مهمة حول نسب خريجي تخصصات العلوم الإنسانية ونسب توظيفهم والإقبال عليهم، كما أنه يشير إلى نقطة مهمة جدا وهي أنه “وحيث أن الكمبيوترات تتصرف أكثر وأكثر مثل البشر، فإن العلوم الاجتماعية والإنسانية ستصبح أكثر أهمية. اللغات، الفن، التاريخ، علم الاقتصاد، علم الأخلاق، الفلسفة، العلوم السيكولوجية وبرامج التطوير الإنساني يمكنها جميعا أن تلقن المهارات ذات القواعد النقدية، الفلسفية والأخلاقية والتي ستكون هامة ورئيسية في تطوير وإدارة كل الحلول”.

يقول جورج أندرز، مقتَبسا في المقال، وهو صحفي مختص في التكنولوجيا عمل مع مجلة فوربس من 2012 إلى 2016، إن أهم المهارات التي يتعلمها خريجو العلوم الإنسانية هي مهارة empathy أو التعاطف والتي عرفها هو على أنها “القدرة على فهم احتياجات ورغبات مجموعة متنوعة من الناس”.

ويشير أندرز إلى أن هناك مهارتين إضافيتين مهمتين جدا ومطلوبتين في سوق العمل لخريجي المجال الإنساني إضافة للمهارة الثالثة المذكورة، وهاتين المهارتين هما creativity الإبداع وcuriosity الفضول أو حب المعرفة.

هذه المهارات، يقول المقال، رغم إمكانية تعلمها من خلال تخصصات أخرى مختلفة، إلا أنه لا يوجد مجال يكثفها ويعمقها مثل مجال دراسات العلوم الإنسانية حيث المقررات المكثفة في القراءة والكتابة والخطابة والتفكير النقدي. “إن فائدة الدرجة العلمية في العلوم الإنسانية” يقول أندرز وآخرون حسب المقال، “تكمن في التركيز الذي تضعه على تعليم الطلبة أن يفكروا، ينقدوا، ويقنعوا ـ غالبا في المناطق الرمادية حيث لا تتوافر الكثير من البيانات أو حيث تحتاج لأن تستنبط ما يجب أن تعتقده أو تؤمن به”.

منذ أن ظهر الإنسان على سطح الأرض كان ظهور الفكرة هو أهم تطور حياته، فقبل الفكرة، كان الإنسان (قبل أن يكون الهوموسيبيان الذي هو عليه اليوم) كائنا بدائيا يتسلق الأشجار ويبحث عن طعامه يوم بيوم، وحين هبط من الشجرة ومد ظهره باستقامة، ورفع رأسه إلى الأعلى معطيا الفرصة عبر ملايين السنوات لمخّه لأن يكبر ويتطور، بدأت تظهر الفكرة، وما إن ظهرت حتى كرت السبحة، وحضر الكائن المخيف العظيم المهيب، الذي هو نحن اليوم.

كل تطور عظيم، كل إنجاز هائل، كل اختراع، كل تكنولوجيا، كل تقدم طبي، كل اكتشاف علمي، كل لحظة عزيمة في حياة البشر بدأت بفكرة، ومضة طرأت على هذه الآلة الرهيبة التي هي المخ، ليتمناها الإنسان ويحلم بها ثم ليحللها ويمحصها ثم ليحاول مرة واثنيتن وألف إلى أن تأتي إلى الحياة على إثر هذه الومضة الأولى.

هذه الفكرة، خلقها، تمنيها، الحلم بها، التفكير فيها، تحليلها، تمحيصها، الدفع بها من حيز الحلم الى حيز الحقيقة، كل ذلك هو من صنع الآداب والفنون والعلوم الإنسانية بأكملها، هذه العلوم التي هي المطبخ الحقيقي، المعمل الخلفي، الذي يعد ويجهز ويخبز ويعجن، ليتلقف هذه العجينة الطازجة بعد ذلك هؤلاء الجالسين في الصفوف الأمامية، فيعملون فيها أدواتهم العلمية وعقولهم العملية البحتة وليظهروا “خبزتها” إلى النور، غالبا دون الإشارة للعظماء المجهولين الجالسين خلف الفكرة/ الومضة/ العجينة الأولى، من حلموا بها وتمنوها ومحصوها واستحضروا كل مقاديرها، ولربما حتى ماتوا من أجلها، تماما مثل عباس بن فرناس.

دراسة الأدب والفنون والعلوم الإنسانية لا تقدم فقط مهارات إنسانية مهمة وخطيرة، لا تعد الإنسان فقط للتعامل مع عالم خطر بتنوعاته واختلافاته وشراساته الكثيرة، إنها تخلق من الفرد إنسانا أفضل، أكثر تعاطفا وفهما وبكل تأكيد أقل عنصرية، فنادرا ما نرى كاتبا عظيما أو موسيقيا عبقريا أو شاعرا فذا يكون عنصريا أو كارها أو أصولي الأفكار والنزعات.

العلوم الإنسانية، وأؤكد، الآداب والفنون تحديدا، ترقق القلب، تضفي شفافية على النفس، تكبر الصورة جدا ليظهر لك واقعيا حجمك المنمنم فيها ولكن كذلك أهميتك كجزء من الكيان البشري المتكامل الذي يؤطرها. هي علوم تضع الأشياء في منظورها الصحيح، مؤكدة دوما على تنوعنا وتبايننا وتشابهنا وعظمتنا وكذلك قلة أهميتنا في هذا الكون الفسيح وعبر هذه الملايين من السنوات التي انحدرنا منها ولا نزال على دربها سائرين.

ادرسي الأدب والفنون، ستحظين بفرص عمل ممتازة، ادرسها وستكون إنسانا أفضل، أقل عنصرية، أكثر فهما للتنوع الإنساني وأقوى تمييزا لقيمتك الحقيقية كبشر منمنم وكوجود عظيم.

اترك تعليقاً