تحميل إغلاق

حد فهم حاجة؟

صورة وزرعتها وكالة الفضاء الأوروبية تظهر نجما يشبه الشمس يقترب من ثقب أسود عملاق

حد فهم حاجة؟

يقول العلماء، أمثال ريتشارد دوكينز ولورانس كراوس، إن العلم يهتم بمنطق “كيف” أو How وليس منطق “لماذا” أو Why. فعلى سبيل المثال، العلم يسأل “كيف صنعت الطبيعة الجبال؟” وليس “لماذا توجد جبال ولأي هدف أو غاية؟”. فالأهداف والغايات والنوايا ليست من شأن العلم. فالعلم يرى أن الكون الفسيح البارد هذا، لا غاية له، لا أهداف عظمى له، لا يسعى لمصلحة الإنسان ولحفظ نوعه.

الكون لا يتحرك ولا تتصرف قوانينه الفيزيائية من أجل الإنسان أو من أجل أي شيء آخر في سواده اللامتناهي. الكون، على عظمته وشساعته وروعة أسراره وعمق خباياه، بارد صارم خارق الحياد تجاه كرتنا الأرضية، كما تجاه كل ما يحتويه من كواكب ونجوم ومجرات، والتي تقريبا لا وجود ولا أهمية لها في اتساعه وحجمه وكمية المجرات والنجوم والثقوب السوداء التي تشكله والمادة المظلمة التي تغلفه وتملأ كل ذرة فيه.

وحتى نقرب عقولنا من الفكرة العصية على الفهم أو الاستيعاب البشري، يقول الدكتور محمد قاسم، العالم الكويتي، في مثال له على نمنمتنا في هذا الكون الشاسع إنه إذا ما أمسك أحدنا حبة رمل ورفعها إلى السماء فإنها ستغطي ملايين الملايين من المجرات، التي تحتوي على ملايين الملايين من الكواكب والنجوم؛ وما نحن سوى ذرة من ذرة خلف حبة رمل لو أن كائن ما رفعها أمام عينيه (لو كانت له عينين) من على كوكبه الصغير الموجود في مجرته البعيدة.

فإذا كانت “لماذا” لا تهم، والغايات والأهداف غير ذات وجود، فكيف إذن نحيا حياة أخلاقية؟ يقول ريتشارد دوكينز إننا تكونا في الحياة عن طريق التطور الدارويني والاختيار الطبيعي، إلا أننا غير ملزمين بالعيش في مجتمع دارويني وبالرضوخ لمنطق الاختيار الطبيعي الذي يعطي الغلبة للأقوى.

لقد تطور الوعي البشري إلى درجة يستطيع معها أن يميز أنه على الرغم من أن نشأته كانت طبقا لمفهوم البقاء للأصلح، وأن جيناته استمرت لأنها الأقوى، إلا أن الرضوخ المستمر لهذا المنطق سيخلق مجتمعا بعيدا عن إنسانيته، مجتمعا غير قادر على رؤية الخير والفائدة في الجين الأضعف، أعمى لأهمية حماية الإنسان ولقيمة إبداع الضعيف من جنسه تماما كما عمي وبرود وصلافة التطور الدارويني الذي أتى بنا للحياة.

لربما نحن نتاج التطور الدارويني، إلا أننا على درجة من الوعي ولنا من الضمير والحس الإنسانيين ما ينبهنا إلى أننا لسنا مضطرين لأن نحيا طبقا للفلسفة البيولوجية التي صنعتنا، لسنا مجبورين لأن نحيا بذات المفهوم الصارم البارد المحايد بلا رحمة أو قدرة على تقييم الضعف وتقدير قيمة الحياة مهما كانت واهية وضعيفة التكوين.

ومن المنطق ذاته، أن حتى لو كان كوننا باردا صارما عديم المنطق الرحيم، غير موال لإنسانيتنا المنمنمة المنعدمة الوجود تقريبا، فإننا لا نزال نستطيع أن نخلق لنا أهدافا وغايات، لا نزال نستطيع أن نخلق قيمة للحظات حياتنا التي هي كل ما نملك. هذه اللحظات التي نحيا هي كل المعنى وأصل المعنى، هي في حد ذاتها الهدف والمبتغى، والسعادة التي قد تتحقق خلال بعضها هي كل الثمار التي سنجنيها في هذه الحياة القاسية.

ولقد فسر لنا العلم وسيكولوجيته أهمية الحياة الأخلاقية الفاضلة الإنسانية، فأن تحيا هذه الحياة بأخلاق وباحترام للقوانين فذلك يساعد على حفظ النوع الإنساني، لا تَقتل مثلا لأنك لا تريد أن تُقتل. وأن تحيا هذه الحياة برحمة فذلك لأنك تعلم أن لكل فعل رد فعل تود أن تراه أنت تجاه فعلك الرحيم. وأن تحيا هذه الحياة بإيمان بالإنسانية فذلك لأنك تزرع في نفسك قبل غيرك قيمتك كإنسان، فإن ثبتت الفكرة في نفسك سيكولوجيا، ستبدأ تطرح ثمارها فعليا على حياتك وحياة الآخرين من حولك.

ما الحياة سوى هذه اللحظات التي تقرر أن تعيشها بسعادة أو تختار أن تعيشها بتضحية أو تود أن تكرسها لهدف أو قضية؛ قيمة الحياة هي في المعنى الذي تقرر أن تخلقه أنت لها، تخلقه وتصنعه مع سبق إصرار وترصد، وبفهم كامل لحقيقة أن هذا المعنى من صنعك، لا كون عظيم سيقدر هذا المعنى، ولا قدر سيأخذ جانبك ويرأف بك بسبب فضل وأخلاقية هذا المعنى. كل ما ستجنيه هو رضاك الداخلي، ونوعية حياة غالبا ما ستكون جيدة إذا ما سيرتها الأخلاق، ولحظات سعادة ومتعة قد تتحقق نتاج الرضا عن النفس والتقدير الجيد لمردودات ومعطيات الهدف والمعنى اللذين قررتهما لنفسك وحياتك.

يقول ريتشارد دوكينز إن الحياة أشبه ببقعة ضوء تسير على خط مظلم مستقيم، ما حياتك سوى هذه اللحظة التي مرت خلالها هذه البقعة الضوئية عليك. وعليه، فإن احتمالية أننا لا نحيا في هذه اللحظة، أو أن اللحظة الحالية هي ماض سحيق أو مستقبل بعيد هي احتمالية أكبر بكثير من أن بقعة الضوء هذه تمر على حيواتنا الآن، وإذن احتمالية أننا أموات منذ زمن سحيق أو سنكون أحياء في مستقبل بعيد هي أكبر جدا من احتمالية أننا أحياء الآن.

ما الذي تعنيه هذه النظرية؟ لربما هي تشير للنظرية الأفلاطونية التي تصور الحياة انعكاسا لواقع آخر لا نراه، ولربما هي تؤكد على أن هذه اللحظة الخاطفة لمرور بقعة الضوء هي كل ما نملك وهي كل الثمين والمثمر في هذه الحياة. لربما من غير المهم أن نعرف لماذا تَكون الجبل، لأي هدف هو موجود على الأرض، وما هي غاية وجوده ومبتغاه، ولكن من المهم أن نعرف كيف تكون هذا الجبل حتى نستطيع الوصول إلى ما سيحدث له وعليه تحقيق الاستفادة القصوى من وجوده ونحقق حياة أخلاقية جيدة بسبب هذا الوجود. هذا كل ما نملك وكل الممكن في هذا العدم الشاسع البارد الجاف الذي نحيا ونعيش. لا يبدو أن شيئا مما كتبت مفهوم حتى لنفسي.

اترك تعليقاً