تحميل إغلاق

لماذا كل هذا؟

لماذا كل هذا؟

لي مجموعة من الصديقات الفلبينيات اللطيفات، نجتمع كلما زرت صالون التجميل النسائي الذي اعتدت ارتياده منذ سنوات حتى تكونت صداقة عميقة حقيقية بيننا. تعمل هذه السيدات في أعمال التجميل المختلفة، يقضين أوقاتهن من صباحها لمسائها في الصالون، معملات أياديهن في شعر الزبونات، أظافرهن، وجوههن، إلى آخر أجزاء الجسم التي تحتاج إلى «صيانة» بالكاد تُصلح ما أفسد الدهر. ترتسم في عيون هذه السيدات أشواق وحنين لا يفهمها سوى من اغترب وفارق، كل منهن مخلفة عائلة في الفلبين تعمل من أجلها هنا في الكويت لسنوات طويلة، عمر بأكمله. أستغل وقتي معهن في أحاديث كثيرة، أحياناً يسألنني عن حياتي الشخصية وأحايين يسألن عن رأيي في علاقاتهن التي لا يستطعن البوح بها في محيطهن، وكثيراً ما أسألهن عن حيواتهن التي خلفن خلفهن في مكان يبدو بعيداً، ومنذ زمن يبدو أكثر بعداً، إلا أن الأغلب والأعم من أحاديثنا هي في الواقع فلسفية، نعم كما قرأتم، أحاديث في الفلسفة.
ما إن آخذ موقعي على كرسي «العطار» حتى تسألني إحداهن: «ها مدام، ما هو سؤال اليوم؟» اعتادت هذه السيدات أن أطرح عليهن سؤالاً فلسفياً في كل زيارة، نتداوله جداً وضحكاً، إلى أن نصل إلى أن لا جواب لمعظم هذه الأسئلة المطروحة. ذات مرة سألتهن سؤالي المعهود، «لماذا تسعين لدخول الجنة؟» وعلى العادة، صمتت السيدات مفكرات في هذا السعي الحثيث الذي يتطلب إجابة بديهية اكتشفن أنهن لا يملكنها، إلا واحدة. قفزت سوزي قائلة: «حتى لا أدخل النار». ابتسمت للحبيبة سوزي وقلت: «صدقت يا حبيبتي، كثيراً ما نسعى حثيثاً اتقاء للآلام لا رغبة في السعادة ونعيمها. من خلال آلام بشريتنا التي لا تعد ولا تحصى، تعلمنا أن «نعد بركاتنا» وأن نكتفي بتفادي الألم إنجازاً مريحاً».
مونا تنزعج من أسئلتي. هي كبيرة الصالون، عميقة الإيمان المسيحي، ذات مزاج متغير وصبر يقل مع مرور الزمن. تنزعج مونا من أسئلتي الفلسفية التشكيكية، فأخبرها معتذرة أن الأسئلة هي باب التفكير، «ولمَ نفكر ولدينا كل الأجوبة؟» صحيح يا مونا، بل وأزيد عليك، لمَ وكيف تطورت هذه الأدمغة في جماجمنا ما دمنا لن نستعملها؟» ذات يوم وهي تمر عليّ سريعاً على حوض مغسلة الشعر، رفعت رأسي بأصباغه التي أحاول أن أخفي بها آثار الزمن وسألتها: «ميمي (هكذا أغنجها) لماذا يتزوج الناس؟» نظرت لي نظرة «استغبائية» قائلة: «هذا هو النظام البشري، حتى تصبح لدينا عائلات وننجب أطفالاً».
صَمَتّ بعد أن استشعرت ألم سؤالي في قلبها، أغلب السيدات هنا متزوجات، أو كن كذلك، أغلبهن انفصلن الآن بعد أن أعمل الزمن والبعد والفراق في علاقاتهن سكاكينه، وأغلبهن أمهات، أمهات مفارقات يقطعهن الشوق بأنيابه الحادة. لماذا تزوَّجْتِ وأنجبت يا مونا وأنت تعلمين أنك ستفارقين؟ لماذا قررت أن تسافري لتنجبي بعد شهور فقط من زواجك، يا ليزا، ثم تتركي الطفل عند والدتك وتعودي لتعملي وتعيلي هذا الطفل الذي لن تعيشي معه ولن تستمتعي بمشاعر أمومته؟
فاطمة هي أقربهن إلى قلبي، سيدة هادئة وديعة، حسنة الاستقبال لأسئلتي وكأنها تشفق عليّ من حَمْلِها كلها في قلبي. فاطمة تحولت للإسلام بعد زواجها من رجل مسلم، إلا أنه لا يبدو عليها أن الدين يفرق عندها، تعيش بوداعة قلبها وطيب أخلاقها وحسن تعاملها مع الآخرين. سألتها ذات مرة وهي تقلم أظافري: «فطومة، لماذا يذهب العصاة إلى النار؟» ابتسمت ملقية نصف نظرة على زميلتها الجالسة بجانبها: «لا أعلم مدام، ربما لأنهم أخطأوا، ولذا لا بد من معاقبتهم». سألتها، «وما الهدف من العقوبة؟ هم لن يستطيعوا العودة للحياة مجدداً ليصلحوا أخطاءهم، ما الهدف من عقوبتهم المضنية الأبدية؟» دفعت فطومة نظارتها أعلى أنفها الصغير ونظرت لي بإشفاق قائلة: «لا يجب أن تشغلي نفسك بهذه الأسئلة مدام، فقط عيشي».
خطرت لي مباشرة فكرة مؤلمة، التفلسف والتفكير يحتاجان لكثير من الرفاهية، فالعامل في المنجم لا وقت ولا جهد لديه ليتفلسف، والمحني ظهرها على شعور زبوناتها لا مساحة في عقلها وقلبها لتتساءل، التفكير النقدي والتفلسف رفاهيات، لا يستطيعها سوى أمثالي، ممن يجدون سقفاً فوق رؤوسهم وطعاماً على موائدهم وعائلات يركنون إليها دون معاناة فراق أو بعد. خجلت من نفسي وأسئلتي، إلا أن خجلي هذا لم، وأتصور لن، يوقفني، ففي الزيارة التالية عدت، والعود أحمد، لأسأل ميري: «في رأيك، لماذا لا يوجد أنبياء نساء؟» بل إنني ذهبت لحد سؤال زهرة، جميلة الصالون: «لماذا جارت علينا الطبيعة وجعلتنا نحن النساء نحمل ونلد؟». أحياناً إذا خلا الصالون لي ولصديقاتي الفلبينيات، يجتمعن كلهن حولي، نتهامس الأسئلة رغم فضاوة الصالون، ونتضاحك على الردود المنطوقة وغير المنطوقة، فأضغط أنا ضغطة أعمق في السؤال منتظرة ردود فعلهن المحببة، كأن يسقط فك فطومة السفلي، أو يرتفع كف زهرة إلى فمها، أو تنفض مونا يديها في الهواء مستديرة عن مجلسي وكأنها نفضت يديها مني وسلمت أمري للسماء.
أحبهن حباً لا يوصف، مع هذه السيدات أستطيع أن أكون نفسي، أستطيع أن أتداول وإياهن تلك الأسئلة التي لا أستطيعها حتى في مجالس أٌقرب الأصدقاء والصديقات. يتحملنني هؤلاء السيدات، ربما بدافع الواجب، أو بدافع الشفقة، لكن ما أعرفه وأستشعره حق معرفة واستشعار أنهن يرحبن بحب حقيقي وشوق، وأنني أحكي بارتياح ومحبة، وأننا نضحك بكل عمق وأريحية، وأننا كلنا سنختفي ذات يوم لتبقى كل هذه الأسئلة معلقة. لربما هذا سؤال آخر ليوم آخر: «لم تعتقدن أننا نأتي إلى هذه الأرض فنحيا ونسعد ونتألم ونموت ونترك ذكرانا من بعدنا أو لا نتركها إذا كنا سنفنى والأرض والكون بأكمله ولو بعد حين؟»

اترك تعليقاً