شحنات من أجساد
ظهرت في مجتمعاتنا الخليجية، القبلية المتجذرة في مفاهيم امتداد العرق والدم، على إثر جائحة كورونا مجموعة من المشاكل “المميزة” التي ربما تخطاها بقية العالم أو على الأقل أحسنوا إخفاءها.
في كل المجتمعات الإنسانية تظهر في وقت اشتداد الأزمات مشاكلها المزمنة، وربما أحد القواسم المشتركة بين المجتمعات الإنسانية عموما، هو أنها تحت الضغوط والمخاطر سرعان ما تنشق على نفسها وتنفصل في تحزبات صغيرة يتكتل الأفراد فيها طبقا لعوامل تجانس عادة ما لا يكون لها أي علاقة بالمفاهيم المدنية أو الموازنات العقلانية. فما أن تتشكل خطورة حياتية أو تتبدى أزمة اقتصادية، حتى ينقسم الناس طبقا لانتماءاتهم الدينية، لأصولهم العرقية، لطبقتهم الاجتماعية وغيرها من الانقسامات التي لا تنتمي للمفاهيم المدنية ولا للمنطقية الواقعية.
بعض أجزاء من العالم استطاعت أن تتجاوز هذه الانقسامات بمرورها بتجارب تاريخية مريرة أثبتت فشل فكرة التكتل الجزئي لصالح فكرة التكتل الإنساني العام. أجزاء أخرى من العالم، ورغم أنها في مرحلة انتقالية من حيث أنها لم تترك قبليتها خلفها تماما بعد، فإنها تحسن تغطية هذه الانقسامات وتداعياتها. ثم هناك نحن، الشرق أوسطيين، مصلعين وفخورين.
يقول نوبوأكي نوتوهارا في كتابه “العرب: وجهة نظر يابانية” مقتبسا ناقدا يابانيا في تحليله للانغلاق الياباني تجاه الآخر أن “الأنا يعتبر الآخر بيئة فيزيقية فقط، ولا يعتبره وجودا موضوعيا حيا مثله” (19).
لا تتجلى هذه الأنا المرضية عندنا في علاقاتنا بالأجانب الذين يحيون في بلداننا فقط، بل هي تتعداها إلى علاقاتنا ببعضنا البعض التي سرعان ما تتصدع تحت شراسة الهجوم الانقسامي العرقي والديني.
منذ بداية أزمة الوباء، ظهرت مشكلة “الآخر الأجنبي” في بلداننا، وخصوصا الخليجية منها، بوضوح وبدرجة عالية من الخطورة. ففي خضم معركة مواجهة الجائحة استمرارا في البقاء وحفاظا على النفس البشرية والموارد، بدأت الأنظار تتجه “للآخر” على أنه الطفيلي الذي يعتاش على مواردنا، يرفع من نسب إصاباتنا، ويضيق علينا في متاجرنا الغذائية. هذا الشريك القديم الذي ربما هو موجود بين ظهرانينا لعشرات السنوات، مساهما في بناء محيطنا، مشاركا في عيشنا وبناء خدماتنا، أصبح اليوم عبئا ومصدر خطر.
إلا أن هذه القصة ليست جديدة، هي ليست نتاج الظرف الطارئ، هي قصة كامنة منذ زمن في أعماق ضمائرنا كما الفيروس النائم، تظهر أعراضها بين الفينة والأخرى مشيرة إلى خطورة الحكاية وكارثية النهاية، إلا أن راحة التنفيس ولذة التخفيف عن النفس بالخطاب العنصري أعمت الناس عن خطورة القادم، وها هو القادم قد أخذ قفزة كبيرة باتجاهنا وبسرعة غير مسبوقة.
الآن أصبحت العمالة المغرِقة لدول الخليج (برضى هذه الدول السابق) موقع التنفيس لأهاليها، لتكال الاتهامات لهم على أنهم فاسدون، مقيمون بصور غير شرعية، متكومون بأعداد كبيرة، ينشرون المرض بيننا ويزاحموننا على خدماتنا. هم الأحق بهذه الاتهامات على كل الأحوال، فنحن أولا لا نود (ولا نستطيع أحيانا) أن نكيل الاتهامات لحكوماتنا، ونحن ثانيا في وقت أزمة لذا علينا أن نمتدح أنفسنا ونتغنى بمجتمعاتنا، ونحن، ثالثا وأخيرا، لا نتصور هذه العمالة الفقيرة أشخاصا حقيقيين، بآباء وأمهات وأسر وماض وحاضر وآمال وأحلام وأفكار تجول في الخواطر وحنين وألم وكرامة تجرح ونفس تكسر، لا نستطيع أن نتخيل فعليا حيواتهم المبددة في غربة جسدية وروحية، بلا الشركاء والأبناء، في غرف ضيقة ومساحات مهملة، يحيون كرقم ما على ورقة ما في ملف ما.
هم عمال، شحنات من أجساد، لا يسكنها ما يسكننا، لا بعد حقيقي لحيواتهم كما لحيواتنا. عزلهم واتهامهم جمعيا لا يضير، فهم هناك، بعيدا في بيوتهم المتهالكة، بيننا وبينهم شاشات التلفونات تحولهم إلى صور متحركة غير حقيقية، تبعدهم عن واقعنا وتبعدنا عن حقيقة مأساتهم.
يقول نوتوهارا “هذا الناقد (المذكور في الاقتباس أعلاه) يؤكد لنا على الوعي المشترك بأننا جميعا بشر وأننا كلنا معا نكون المجتمع الاإنساني، ثم يؤكد على ضرورة وعي الحياة اليومية. وبعد ذلك كله تخيل وجود الآخرين”. وهو يؤكد أن خطر مواجهة أي ثقافة مختلفة عن ثقافتنا يتمثل في “الأفكار الجاهزة ومن تلك الأفكار الجاهزة يتم القفز من فكرة إلى أخرى، ليتم الوصول إلى استنتاج أخير حاسم. في هذه الحالة، ننحرف عن الواقع، الأفكار الجاهزة تخرب البحث وتخرب فهمنا للواقع” (20 ـ 21).
في مجتمعاتنا المغمورة أسفل قبلياتنا العرقية والدينية والأصولية، أفكارنا دائما جاهزة لا مجال لمراجعتها بالتجربة، موثقة بكلمات وتعابير نكررها بعصابية كأننا توارثناها مع قبلياتنا القديمة.
وفي ليلة وضحاها، مع استشراء هذا الوباء، كل الجمر المتقد أسفل الرماد هاج وماج، لتنفجر وسائل التواصل بأحاديث النفور والكراهية تجاه المقيمين في بلداننا، هؤلاء الغرباء الذين في وقت الأمان طلبنا خدماتهم وفي وقت الشدة نطالب بكل أريحية بشحنهم إلى بلدانهم، فهم “بيئة فيزيقية، لا وجود حي”.
لكن هذه ليست كل القصة، فالداء يستشري حتى بين أبناء البيئة الواحدة، ليصبح هناك تشكك في كل من لا ينتمي “لأنقى دم” في المجتمع. في تجربتي الخاصة دائما ما تُقرأ ردود أفعالي وآرائي من خلال عدسة إيرانية شيعية بحكم انتمائي العرقي والديني العائلي، وهي عدسة ما لبثت أزمة الوباء أن رفعت من درجة تحدبها. فأنا رغم أنني لا أفهم الفارسة ولم أزر إيران مطلقا في حياتي (مع كل الأسف) ورغم أنني معلنة الموقف الليبرالي اليساري العلماني، أبقى فارسية متآمرة، بدم يحن لشعب لا أعرفه ولسياسة أختلف معها من باطنها لظاهرها.
هذه القصة تذهب لبعد غريب يتطلب مني أن أكون منفصمة أو متعددة الشخصيات. فأنا حين أساند المقيمين الأجانب في بلداننا وأذهب إلى كونهم جزءا مكونا منها ومسؤولية عليها، يتم تذكيري بخليجيتي ودوري الأول كمواطنة لا بد لها أن تدافع عن “ديرتها”. وحين أشير للتضخيم المبالغ فيه للخطر الإيراني لصالح التعتيم على الخطر الإسرائيلي أصبح فارسية دخيلة ذات أهداف صفوية. لم أعد أعرف وضعي بالضبط، إذا أنا “فارسية غريبة” لم إذن العتب على موقفي من “الغرباء المقيمين” وإذا أنا خليجية أصيلة لم إذن التشكيك في رأيي تجاه الخطرين الإيراني/الإسرائيلي؟
ما أنا سوى مثال صغير غير مهم للمشهد الكبير المهم جدا والخطر جدا، مشهد فيه الكثير من الأمراض العصابية والفصامات الواضحة التي لو لم نستغل فرصة الكارثة الصحية الحالية لعلاجها، فسنعيش معها للأبد وستقضي علينا في آخر هذا الأبد.