يخزي العين
بإقصاء لمبادئنا الفنية، أنا برفضي مشاهدة الأعمال الفنية التي تزين تشييئ المرأة وتقولبها، وزوجي برفضه مشاهدة الأعمال الميلودرامية الطويلة المستدرة للمشاعر، اتفقنا أنا وزوجي اتفاقا صامتا على متابعة مسلسل حريم السلطان بسرية، وكأنه ممنوع مرغوب تواعدنا عليه بعيداً عن أعين الناس. طبعا، لم يطل بنا الوقت حتى انفضح أمرنا، وأخذت ابنتي تعايرني: «ماما، لا تقبلين أن نقول كلمة حريم وأنت تتابعين مسلسلأ اسمه حريم السلطان؟» ثم تقلب عينيها وتتركني خلفها وأنا أذوب خجلاً وأستشيط غضباً. كان ذلك في الماضي، الآن، نشاهد أنا وزوجي المسلسل بكل أريحية أمام أعين الأولاد المستهجنة، إلا أن مشكلة جديدة بدأت تتشكل حين انضم كل منا إلى معسكر مختلف من معسكرات المسلسل، وتضخمت المشكلة حين تبادلنا الأدوار بدون أسباب واضحة ومنطقية تذكر.
في الأجزاء الأولى من المسلسل، كان زوجي مسانداً تماما للسلطانة هيام، في حين كنت أنا أجدها مخادعة مجرمة بلا أخلاق أو ضمير. وما أن تبدلت الممثلة التي تلعب دور هيام في الأجزاء التالية حيث حلت فاهيد جوردوم محل مريم أوزرلي، حتى تغير موقفانا بين ليلة وضحاها. أنا أضحيت أحب السلطانة هيام وأجد مبرراً لأفعالها وأوقر شخصيتها وقوتها وزوجي يجدها «لعينة» حاقدة سيئة التصرف. تغيرت الأحكام حين تغيرت الممثلة واختلفت المسطرة حين تدخلت المشاعر، وفوق كل ذلك، ومضاعفة لتناقض الموقف، لازلت أرفض أن أعترف أنها الغيرة التي جعلتني أنفر من هيام الأولى وأحب الثانية، الا أنني أصر على أنها «فراغة عين الرجال» التي جعلت هيام الأولى مسموحة برغم شراستها والثانية محكومة ولو كان لها ألف عذر.
كان الأمر لينتهي نهاية مؤلمة لولا أني جلست فحللت وتوصلت إلى أن الذنب ليس ذنبنا أنا وزوجي، ولو كان هناك ذنب فسيقع على عاتقه بالكامل طبعاً، إنما الذنب في عربيتنا، نحن محكومون بها في دمائنا، تجعلنا نكيل بمكيالين وننظر بمنظورين فلا نستطيع الى الفكاك من هذا النظام سبيلا. والأمثلة واضحة جداً، وضوحا مباشرا إلى حد السذاجة، وإلى درجة تجعل كل من «عنده دم» يجف في عروقه إحراجاً وخجلاً، خذ عندك مثلاً، تقوم ثورة في سوريا وأخرى في البحرين، هنا شعب وهناك شعب، هنا عنف وهناك عنف، إلا أن الشيعة يجدون المبررات للنظام السوري ويستنكرون «المواقف الإرهابية» للمقاومة السورية في حين أن السنة يجدون ذات المبررات للنظام البحريني مستنكرين «التدخل الإيراني» في قلب المقاومة البحرينية. هنا ثورة وهناك ثورة، هنا قمع وهناك قمع، لكن هنا هيام جميلة وهناك هيام أكبر سناً، وكل يغني على هيامه.
وفي المحروسة، عندما كان الجيش يضرب ابان ثورة 25كانون الثاني/ يناير، كان الحديث عن قمع وإجرام النظام وعندما استمر يضرب بعد ثورة/إنقلاب 30 حزيران/ يونيو أصبح الحديث عن أمن وانضباط. وعندما كان «الأخ» ممسكاً بزمام الحكم، ضحك الناس من عقلية تصدق بطبابة بول البعير وعندما أصبح الزمام في يد «الجنتلمان» شهق الناس لعظمة العلاج الذي يحول «الايدز» «لصباع كفتة». وفي الكويت أخذ فريقا المقاطعة والمشاركة في انتخابات البرلمان يتقاذفان الاتهامات القضائية، فاذا حكمت المحكمة الدستورية لصالح طرف عظمها، وشكك في مصداقيتها الطرف الآخر، وما أن يأتي حكم لاحق لصالح الطرف الآخر، حتى تنقلب الإتهامات وتتبادل الأصابع الإشارات لذات المحكمة في استعراض واضح للمكيالين الخربين الذين يستخدمهما الناس. وفي العراق، عاش الملك، مات الملك، فيترحم على أيامه من كان ينتمي لمذهبه ويلعنه الآخر ضارساً سيرته بين فكيه، ويبقى العنف واحدا والظلم واحدا والعته واحدا.
وحتى في حياتنا الاجتماعية، نسير والمكيالان على ظهورنا معلنين عن نفاقنا بشكل يخزي عين حزب الله وهم يساندون النظام السوري أو القرضاوي وهو يتلطف تجاه «داعش». فالمرأة عندنا عاطفية هوجاء تسيرها أهواؤها وتأخذها مشاعرها، إلا أنها هي الملزمة بالمحافظة على بيتها وبالتحمل والصبر تجاه نزوات زوجها والتريث والحنو تجاه عبث أبنائها، حتى أنه في قوانين الكثير من الدول العربية، بما فيها الكويت، إذا ما قتل الرجل زوجته إذا وجدها في وضع مخل يكون نصيبه عقوبة مخففة، في حين أنه إذا ما قتلت الزوجة (العاطفية الهوجاء المتهورة) زوجها لذات السبب، فإن عقوبتها قد تصل للإعدام. هكذا نحن، أحكامنا تفضح عنصريتنا ورغباتنا ومشاعرنا الشخصية، ولأننا اعتدنا الوضع، ولأن هذا الوضع قد استفحل، ما عدنا حتى نأبه في أن نغطيه فغدونا كما الزوج «الحردان» في المسلسلات العربية الذي ما أن تثقل عليه زوجته اللوم حتى يرد عليها بلا مبالاة «أنا كده وحفضل كده.»
ورغم كل شيئ، لازلت أعتقد أن الحق في جانبي، فالحبكة الدرامية غيرت شخصية هيام من تلك الشريرة إلى هذه الحكيمة، فحق لي محبتها بعد كره. وبعد نقاشات مطولة حول هذا الموضوع، وبعد فترة من «الدمدمة» أثناء مشاهدة المسلسل، كل ينفس عن رأيه من بين أسنانه، سكت زوجي عن الكلام المباح وآثر أن يهز رأسه وشبه ابتسامة متعلقة بشفتيه، وانقلبت أنا قريرة العين بما اعتبرته انتصاراً، في اصرار حديدي أن موقفي لا تحكمه غيرة، إنما يحكمه مبدأ، وهو مبدأ غير واضح إلا لمن تجري في عروقهم دماء عربية مثلي. فنحن العرب نفهم بعض ونحن لبعض ستر وغطا.