«ولو كره الكافرون»
ذات جمعة مريرة، ذهب الصغار والكبار لبيت من بيوت الله يقيمون صلاة الجمعة في منطقة الصوابر في دولة الكويت وما عادوا جميعاً منها. ذات جمعة مريرة سجد الصغار والكبار سجدة ما قام البعض منها فيما ترنح آخرون قياماً بدمائهم يرفعون رأساَ ذاهلاً سجد لله وارتفع على أشلاء وشظايا. ذات جمعة مريرة امتلأ المستشفى الأميري برجال يتراكضون وقد صبغت الحمرة دشاديشهم البيضاء، وبنساء مفجوعات افترشن أرضيته نائحات، بصغار يئنون بخفوت، بكبار يتساءلون بذهول. ذات جمعة، شاهدنا ملابس ملطخة خالية من أصحابها، تفترش أرض مسجد خلا من سجاجيده. ذات جمعة لطخت الدماء كل الصور والمناظر، واختفت الدماء من كل العروق والوجوه والشفاه. ذات جمعة اصطبغت سماء الكويت الجميل بحمرة ووجوه أهلها بصفرة، ذات جمعة سجدنا أفراداً متفرقين واستوينا من السجدة جسدا متلاحما.
ليس الحدث في الكويت كمثله في أنحاء الخليج، فالكويت واحة أمان، والكويت الأقل تمييزاً بين شيعتها وسنتها، والكويت الأكثر ليبرالية في مظهرها وجوهرها، وعندما تحل كارثة من هذا النوع، فإنها اختراق، إنذار، خطوة غير مسبوقة في اقتحام الإرهاب لدار سلام. والسؤال المستحق هنا؟ من فتح الباب للإرهاب؟ سيقال الكثير، منه الحقيقي ومنه المبالغ به حد الكوميدية، إلا أن المؤكد أن من فتح الباب هو صنيعة خليجية مشتركة، فالحدود لا تستطيع أن تحجز الأفكار، ولا أن تحبس الأموال، ولا أن تمنع تكون الخلايا، ولا أن تدفع عدوى التطرف، هي مجرد حدود وهمية لا تحمينا من الخطر الحقيقي، فهو يسكن بيننا، صنع أيادينا، له في كل بقعة حظوة وممول.
لربما أعمم على الدول العربية عموماً التي يتعلم أطفالنا في أغلب مناهجها الفكر المتطرف العنيف، ولربما أخصص على الدول الخليجية تحديداً التي يتعلم أطفالنا فيها فروقاً ما يجب أن يعرفوها، وقصصاً تاريخية ما يجب أن يطلعوا عليها، وحلولاً ما يجب على عاقل أن يقترحها. درس قتل المرتد في الصف الثاني عشر لمنهج التربية الاسلامية في دولة الكويت يحكي قصة دموية حزينة، ترد عليه دروس السعودية، وتبارك لهم بعض الدروس في المناهج المصرية.
وماذا عن أموال البترودولار، وماذا عن التحالفات الدينية السياسية (أنا الفتوى وأنت السيف)، وماذا عن إطعام الهر الصغير الذي كبر فأصبح أسدا كبيرا يفترس كل من يقف في وجهه؟ ماذا عن المنابر، ماذا عن الفتاوى وماذا عن كتب التراث الديني وفيها ما يمكنه أن يغرق قارات الكرة الأرضية بدماء أصحابها؟
ماذا عن غر صغير، عمره خمسة وعشرون عاماً، يلتحف حزاماً ناسفاً، يكبر ثم يفجر فيتناثر ومعه كل أحلامنا وآمالنا وإنسانيتنا؟ ماذا عن أمه، ماذا عن أبيه؟ ماذا عن حياته، غرفته، طبق أكل فيه، كوب شرب منه؟ لا بد أنه كان فتى طبيعيا ذات يوم، لا بد أنه ابتسم ابتسامة طيبة ذات فرحة، لا بد أنه دمع دمعة حقيقــــية ذات حــــزن أو وجع، لا بد أنه فعل قبل أن تجده المنابر والكتب والفتاوى والمشايخ، لابد أنه كان غير ما كان، كان قطعة واحدة إنسانية سليمة قبل أن يتحول الى أشلاء بشرية من الكراهية والأحقاد.
نعم، ارتفع الصوت الكويتي، التحمنا في صورة ساحرة، تراكض السنة ليصلوا في مساجد الشيعة حماية لهم منذ يوم التفجير الغادر، وتناهى الشيعة للثبات والتأكيد على محبة لن يزعزعها شيء منذ اللحظة الأولى للعدوان الآثم، ولكننا اليوم بحاجة لما هو أكبر وأكثر، بحاجة لاختفاء المنابر والكتب والفتاوى والمشايخ ولحضور العقل، بحاجة لاختفاء فكرة قتل المرتد وحضور فكرة حماية الإنسان، في حاجة للقضاء على فكرة الكفر وحضور فكرة الإيمان، الإيمان بأي شيء، حتى لو كان الايمان بعدم الإيمان.
ككويتيين قلنا كثيراً وحللنا كثيراً وحذرنا كثيراً، فعلنا ذلك قبل الحادث البشع وبعده، فعلناه تجاه جيراننا وتجاه بعضنا البعض، إلا أن الزمن لم يعد يحتمل لزوجة كلمات لا تستوي فعلاً حقيقياً، الوضع لم يعد يحتمل مجاملة، بل لم يعد يحتمل حتى السخرية من سخيف الفتاوى ومجاهل الكتب ومساوئ المنابر، الزمن والوضع لا يحتملان سوى حملة حقيقية شرسة تخرس صوت العنف إلى الأبد وتعلي السلام على ما عداه، وهي حملة مستحقة حتى لو كلفتنا ما هو أكثر إيلاماً: عبء مواجهة الماضي بتعاليمه ورموزه، عبء مواجهة أنفسنا بما تجذر فيها من أفكار ومخاوف، عبء مواجهة واقع هو أقرب لحلم كئيب.
نحن، الكويتيين، واقفون على أقدامنا، مرتفعو الرؤوس شامخو الجبهات، ولكن الحقيقة أن قلوبنا كسيرة وأرواحنا مفجوعة وغائبونا الحاضرون في سجدتهم التي لن تنتهي يحرقوننا بالشوق والألم…وشيء من الندم. ندمنا أن ما تحركنا برتم أسرع وخطو أوسع، ندمنا حيث لا ينفع الندم…. إلا ليخلق مستقبلا جديدا، وهذا عزاؤنا، في مستقبل سننقذه «ولو كره الكافرون».
وداعاً أحبة غيابهم طغى حتى أصبح حضوراً بحد ذاته، الكويت لن تنساكم، فالكويت، وإن غفرت، لا تنسى.