«وعسى أن تكرهوا شيئا»
أقام المجلس الوطني للثقافة والفنون والآداب في دولة الكويت وعلى مدى يومين متتالين مؤتمرا متنوعا ما بين ندوات وورش عمل وحفلات موسيقية بعنوان «مؤتمر القراءة الأول» والذي كان من بين ضيوفه د. يوسف زيدان والفنان مارسيل خليفة وغيرهم من الشخصيات الجميلة في الكويت والعالم العربي. ولقد شرفني المجلس الوطني بطلب تقديم أولى ندوات المؤتمر والتي ناقش فيها أ د. أيمن بكر ورقة بعنوان «مفهوم القراءة وبيان هوية القارئ ودورة في المجتمع». ولقد وجدت اختيار د. بكر للجلسة الافتتاحية مصيبا وجميلا، حيث ناقش الدكتور القاعدة الأساسية للعلاقة بين المتلقي والكاتب وبين المتلقي والنص، متحدثا عن الفرق بين المتلقي والقارئ ثم عن ديكتاتورية القارئ وامتلاكه لاستراتيجيات التأويل، متسائلا عن طبيعة الحركة بين هذا القارئ وذاك الكاتب، طارحا السؤال المهم: أيصعد الأول للثاني أم يهبط الثاني للأول؟
ومن بين أهم ما تحدث عنه د. بكر هو موضوع الجهل وتعريفه، والذي قال فيه إنه نقيض المعرفة بل عدوها، حيث يقترن الجهل بوهم امتلاك الحقيقة، فيصبح كالنار التي تلتهم دون تمييز. كما قال الدكتور ان النار هي الوجه الآخر لليقين النهائي، فهي، والتعبير لي، تجب ما قبلها وبعدها، هي البداية والنهاية، فلا يبقى في النهاية سواها، حتى تخمد وحدها دون أثر، هي كذلك النار وهو كذلك اليقين النهائي المرادف للجهل.
ومن بين أقوى ما ذكر الدكتور هو حقيقة أن الفساد أسرع للناس وألصق بذاكرتهم، حيث يرتكز الكلام الرديء بشكل أعمق في وعي الناس، فتراهم، حسب فهمي لمقال الدكتور، مقبلين على بعض الكلمات المسيئة بشهوة وكأن في تكرارها نوعا من الإشباع ولربما اللذة. قد يكون ذلك السبب، والحديث لي الآن، أننا، كبشر، أسرع ما نكون لتعلم الكلمات المسيئة في اللغات الأخرى، وأننا أسعد ما نكون في إغلاظ القول لمن نختلف معه.
في رأيي تتجلى هذه الظاهرة بوضوح في عالمنا العربي والإسلامي، ولربما نظرة ماسحة لوسائل التواصل الاجتماعي تكشف عن الكم اللغوي المريض المنتشر بين أفراد عالمنا شتما وطعنا بهمة وقوة، وأحيانا بحرقة، وكأن في الكلمات الرديئة المتبادلة نوعا من الانتصار على الآخر، حتى وإن كان انتصارا إلكترونيا وهميا مبتذلا، لا عائد منه ولا فائدة.
بالطبع، لا يختلف البشر في هذه الشهوة للفعل والقول الفاسد، أينما وحيثما كانوا، إلا أنني أعتقد حقيقة أن نوع الفعل وقوته، وحدته وتكراره، غير مسبوقين عندنا، ولربما الناس معذورة في ذلك، فقد «كانوا في جرة»، وفجأة بعد أن قدم لهم الغرب وسائل إسماع صوتهم فأعطى كل فرد منهم منبرا وميكروفونا، «طلعوا لبرة». وإضافة لهذا الانفتاح اللحظي المفاجئ هناك الهموم والمشاكل والمصاعب، هناك الإهانات اليومية الفردية والإهانات الجماعية القومية، هناك تخلف ومرار وغضب، هناك أسى لا نستطيع تمييز مصدره بعد أن تراكم عليه التاريخ، هناك ماض بائد وحاضر سائد، أفلا تعمل هذه الخلطة من الانفتاح المباغت والأسى المتراكم عملها في النفوس والألسنة فتطلقهم بغير رحمة ولا حتى بأنفسهم؟
وقد أختم بمعلومة فيها من اللطف ما يخفف مرار المذكور أعلاه، فقد ذكر الدكتور أننا شعوب شفوية، نثق بالمنقول أكثر من المكتوب حيث اقتبس الدكتور من ابن سلام الجمحي قوله «لا يؤخذ من صُحفي». نحن شعوب، كما قال الدكتور، نحب نقل القول، فنأخذ الكثير من معلوماتنا شفاهة، تتجلى تلك الحقيقة حتى ضمن ممارسات حياتنا اليومية، فنحن مثلا ننقل الكثير من تراثنا عن طريق حكايات الجدة للصغار، ونحن نعشق الفصال في الأسواق، فنتعامل مع هذه العادة وكأنها نوع من السباق أو التريض المثيرين، كما أننا خبراء، والكلام للدكتور والتوصيف لي، في نقل ونشر الشائعات، التي تنطلق عندنا كما النار في الهشيم، تلك النار المرادفة للجهل، تلك التي لا تميز فتأكل كل ما حولها وتنتهي بأن تبتلع نفسها.
لربما علينا ان نحمد بعض هذه العادات الشفوية السيئة، هذا التناقل الشائعي وهذا التبادل الشتائمي، فلولاهما لانفجر الناس بكربهم ولاهترت أكبادهم بأساهم ولاحترقت حناجرهم بمرارهم، لذا، قد يكون القول الفاجر المنتشر اليوم هو خير لنا من السكوت المؤدب الذي لن يورثنا سوى الهلاك.