«نِبات في الشارع»
تكهنات كثيرة تدور حول أسباب وحيثيات ظهور مجموعات إرهابية شديدة التوحش مثل القاعدة وداعش والنصرة وغيرهم. درجة غير مسبوقة من الدموية وإلامتهان للحياة إلانسانية ولربما من إلامراض النفسية التي أصابت هؤلاء البشر بشكل جماعي، نوع من الفصام الذي يجعلهم يعتقدون انهم كجماعة أقرب للخالق أو أقدر على التواصل معه أو انهم هم المختارون ليحملوا رسالته وليحاربوا نيابة عنه. الخطير في الموضوع ليس فعلياً ظهور مثل هذه الجماعات، فهذا الظهور متكرر في التاريخ إلانساني، كل المجتمعات وكل إلاديان تعاني من مثل هذه الكيانات المتطرفة التي تظهر على أطراف مسيرتها، إلا ان هذه الجماعات، وخصوصاً في الزمن الحالي، تلاقي رفضاً جماعياً واستهجاناً شديداً حيث سرعان ما توثق على انها كيانات إرهابية أو مصابة بمرض نفسي جماعي مثل جماعة جيم جونز إلامريكية وغيرها.
اللافت هو حجم إلانقسام عندنا حول جماعات لا تحتمل منهجيتها إلانقسام، والمخيف هو وجود تأييد قوي لربما يعادل في تدفقه قوة التيار الرافض، أي ان هناك انقساما حقيقيا ولربما متكافئ حول جماعات ومنهجيات لا تحتمل إلاختلاف حولها. الطبيعي في الزمن الحالي هو ان يَعتبر إلانسان السوي، وانا هنا أغامر باستخدام كلمات وأحكام مطلقة، مجموعة مثل داعش أو القاعدة جماعة إرهابية مريضة، إلا يكون هناك انقسام حقيقي في الشارع حول تقييم هذه المجموعات وإلا يكون هناك أي تأييد كمي لها. إلا ان الوضع في العالم العربي والإسلامي هو وضع مثلوم مثل عالمه، مريض بالعديد من إلاوبئة التي تجعل التصرفات السوية وإلاتجاهات الغريزية إلانسانية ليست بالضرورة هي السائدة. لربما لتاريخ المنطقة العنيف وللأنظمة إلاستبدادية الحاكمة ولاستمرار انغراس سكين احتلال فلسطين في خاصرة المنطقة أثره على اختيارات شعوبها الغير سوية وتأييداتهم المنافية حتى للطبيعة إلانسانية، إلا انني أعتقد ان السبب الاهم هو ذاك الذي لا يود أحد الحديث عنه، هو ذاك «التابو» الذي نستنشقه في هوائنا ولكن يحظر علينا حتى ان نشير إليه أو نميزه.
فالعالم الإسلامي، خلافاً مع معظم العوالم الدينية الأخرى، ليس لديه مرجعية دينية ثابتة ومحددة تتكلم رسمياً باسم الدين. ولطالما كانت تلك ميزة هامة للدين الإسلامي الذي لم يبتغ له ان يكون دينا مؤسسيا منظما، بل منهجية روحانية خاصة بين الفرد وربه. ولكن نحن لسنا هنا تحديداً ولا هناك، فكلا التوجهين، ان يكون ديناً مؤسسياً أو يكون ديناً فردياً، يتطلبان آليات معينة تعقبها نتائج محددة نرفض نحن ممارستها، الآليات، والانصياع لها، النتائج. فان كان الدين الإسلامي دينا مؤسسيا ممنهجا، فإذن نحن نحتاج لمؤسسة رسمية معتمدة للحديث باسمه كما هو حال الكنيسة في الغرب، إلا ان مؤسسات كالأزهر في مصر والحوزات في العراق وايران وغيرها من مؤسسات الطوائف المختلفة لا تمثل حتى كل أصحابها دع عنك مجمل المسلمين، كما وان هذه المؤسسات لا تستطيع توحيد مواقفها حتى حول أكثر القضايا وضوحاً. بلا شك تنقسم كنائس العالم الغربي كثيراً تبعاً لتوجهها الديني، إلا انها، نظراً لانعزالها، ولو الظاهري، عن الشأن السياسي الذي تحكمه ديموقراطية مطلقة ومبادئ حقوق الإنسان، فان اختلافها لا يقسم أتباعها بشكل خطير يؤدي بهم للنزاع المسلح أو للتصادم السياسي الخطير، ففي النهاية تحميهم جميعاً قوانين مدنية تساوي بينهم وتحترم إنسانيتهم. أما عندنا، فيختلط الشأن السياسي بالديني، وينقسم الناس، حتى أتباع المذهب الواحد، في اعتماد جهتهم الرسمية، وتتحول مواقف الجهات الرسمية بحد ذاتها إلى توجهات سياسية تنقلب لأهون الأسباب لصراع دام.
وفيما إذا كان الدين الإسلامي دينا فرديا خاصا، فان هذا يتطلب ان يبتعد هذا الدين تماماً عن الشأن السياسي من منطلق ان الخاص لا يمكن فرضه على العام، والتوجه الروحاني الفردي لا يمكن تطبيقه على المجموعة. إلا ان المسلمين، وتحديداً العرب منهم، يقفون في المنتصف، فلا هم قادرون على تحويل دينهم إلى مؤسسي تام يحددون له جهة متحدثة باسمه ويلتزمون جميعاً بما يرد منها، ولا هم مستطيعون ان يعزلوا الدين عن الشأن العام فيجعلونه ممارسة روحانية خاصة بالفرد غير قابلة للفرض على الأخرين. لذا، تجد المسلمون يبقون يرددون على استحياء كلما ظهر على سطح حياتهم تصرف متوحش أو فكر مريض لأفراد أو جماعات إسلامية ان «هذا ليس هو الإسلامي الحقيقي»، اذن فأين هو الإسلامي الحقيقي؟ من يمثله ومن هو القادر على تحديده؟ إما مؤسسة يشير المسلمون إليها وإما فردية تنطوي صدورهم عليها، أما الوقوف في المنتصف هكذا، فهو أكبر إدانة للدين ولمتبعيه. لقد جعل ترديد هذه الجملة «ليس هذا الإسلام الحقيقي» من الدين مادة هلامية عند غير معتنقيه وأحياناً حتى عند معتنقيه، ليس له جسم فكري واضح يستطيعون التواصل معه، ولربما تلك هي أعظم مشكلاتنا الثيوسياسية والثيواجتماعية الحالية، ولربما تلك هي سبب ليس فقط ظهور جماعات متوحشة إرهابية كداعش التي تبرر وجودها وتوجهاتها بتفسيرات حرفية للنصوص والتاريخ الدينيين، ولكن كذلك بزوغ تأييد قوي لهذه الحركات وانقسام الشارع حولها في حين ان وحشيتها ودمويتها وإرهابها لا يسمحان بانقسام أو تبرير أو تفكير.
يجب ان يواجه المسلمون أنفسهم قبل ان يواجهوا وحتى يستطيعوا ان يواجهوا العالم، إما دين مؤسسي له جهة رسمية معتمدة يمكن لها ان تبدي آراءها في الشان الاجتماعي العام، وإما دين خاص لا يتدخل في الشأن العام مطلقاً، وفي كلا الحالين، لا يجب ان يتدخل الدين في الشأن السياسي مطلقاً. فدون هذا التحديد الواضح، سنبقي قدماً هنا وأخرى هناك، أو، مثل ما يقول عادل إمام، لا جنة ولا نار «نِبات في الشارع».