موسى وعيسى
قدمت قبل أيام حديثاً قصيراً في حلقة نقاشية حول العلمانية، وعلى الرغم من أن الغرب قد تجاوز الفكرة بحثاً وتنفيذاً متطلعاً الآن لمنظومة فلسفية سياسية أبعد وأكثر عمقاً وفعالية وعدلاً، الا أننا لا نزال ندور في ذات الحلقة المفرغة، متصلبين عند مفهوم لربما بدأ الحديث عنه منذ القرن الثاني عشر الميلادي. كان الشعور غريباً ونحن نتناقش (وإن كان نقاشاً إيجابياً) في ما يبدو بديهياً، وفي ما تجاوزه الفكر وعفّ عنه الزمان، وكأننا نجدف في أماكننا، لا نحن قادرون على التقدم ولا نحن عائدون الى شواطئنا القديمة.
إلا أنه وبكل تأكيد هناك أسئلة مفهوم طرحها ومخاوف مستحقة إثارتها في مجتمعات عاشت سنواتها الطويلة محكومة من الوعّاظ، قوانينها فتاواهم وأحكامها نطقهم السامي. ففي المجتمعات المنغلقة المحافظة التي يعاني فيها الأفراد من «أنانية» دينية و«غرور» إمتلاك الحقيقة، من الصعب جداً التمهيد لفكرة «الصواب الذي يحتمل الخطأ» و الإفساح للرأي المخالف والعدل الديني، أي عدل الدولة في تعاملها مع الأديان. وعليه وحينما يثور أي حديث حول العلمانية دوماً ما يطفو القلق حول مصير الدين الإسلامي تحت هذه المنظومة، في إستنكار لإمكانية أن يصبح هذا الدين الإسلامي مثله مثل أي دين آخر، له ذات القوة، ومحكوم بذات الحياد، وهي المخاوف المتوقعة من مجتمعات مغموسة تماماً في فكرة أنها «خير أمة» لأنها تمتلك «الدين الحق»، وعليه يصعب جداً إقناعها بأن خلاصها وسلامها لن يستتبان الا إذا اتخذ دينها كرسياً خلفياً بجانب كل الأديان الأخرى إفساحاً للقوانين المدنية لإتخاذ كرسي القيادة.
إلا أن الموضوع لا يقف عند حد إشكالية الإعتقاد بالحق المطلق والسيادة الدينية، فهناك أسئلة حقيقية وعوائق واقعية يستشعرها الناس بينهم وبين تطبيق العلمانية، منها مثلاً التساؤل الدائم حول القاعدة الأخلاقية التي ستستخدم في التشريع المدني في حال غياب القاعدة الدينية. هذا التساؤل تحديداً يرد كثيراً في النقاشات العلمانية الدينية، ففي حال تحييد الدين عن المشهد المدني، ما القاعدة الأخلاقية التي ستحكم الشارع وتساعد في صوغ بعض القوانين المدنية ذات المنحى الأخلاقي مثل قوانين الآداب العامة؟ كذلك، من العوائق المهمة أمام القناعة العلمانية عندنا في المنطقة هي الأمثلة الديكتاتورية لدول كانت لها قوالب علمانية استُخدمت لقمع الناس والحد من حرياتهم. اذن يثور هنا التساؤل حول كيفية حماية الفكرة العلمانية من أن تتحول الى ديكتاتورية، مما يستوجب تساؤلاً آخر حول ما اذا كانت العلمانية بحد ذاتها فكرة كافية لإستتباب العدالة ولحل المشاكل وللإجابة على كافة الأسئلة.
بالطبع من الواضح تماماً أن العلمانية لا يمكن أن تكون إجابة سحرية، فالعلمانية «ليست هي الحل» كما يدّعي الإخوان المسلمون عن الدين الإسلامي. العلمانية هي جزء من الحل، هي تعالج جانباً من الجوانب الإستشكالية في المنظومة الإنسانية المدنية ولا تحل كل المشاكل أو تخلق مجتمعاً مثالياً مطلقاً والذي هو حلم لا يمكن أن يتحقق في يوم. كما وأن العلمانية بلا ليبرالية إجتماعية قوية وواضحة ومغروسة في ضمائر الناس وفي الفكر السياسي القائم في دولتهم ستتحول بكل تأكيد الى ديكتاتورية يطغى بها السياسي ويتحول من خلالها الى كاهن من نوع آخر، فارضاً بها «عقيدته» وقامعاً من خلالها «أتباعه» بلا إختلاف كبير عما يحدث في منظومة القمع الديني القائمة الآن.
يتحدث سعيد ناشيد في كتابه « الإختيار العلماني وأسطورة النموذج» حول عدد من الأسئلة المستحقة في هذا الجانب، الا أنه يعتقد أن المشكلة تبدأ اليوم من قلقنا المستمر حول حقوق الأقليات الدينية ومحاولتنا ضمان حريتهم في التعبير من دون الإلتفات كثيراً إلى حق ممارسة العلمانية وإلى فكرة الإصلاح الديني، حيث يقول: «فصرنا نسمع إطناباً عن الحديث عن الحق في الدين، عن الحقوق الدينية، وعن الحق في مظاهر التعبير العلني عن الإنتماء الديني، من دون أن يوازن ذلك أي حديث عن الحق في إصلاح الأديان ولا عن الحق في العلمانية، الا في ما ندر» (102) حيث يستجلب مثالاً «لما ندر» ذاكراً «الميثاق الأوروبي لحقوق الإنسان في المدينة» الذي وقّع عليه بعض عمداء المدن الأوروبية في 2000 والذي «أقر في مادته الثالثة بضرورة «إحترام العلمانية». وقبل ذلك، وعدا ذلك، وربما حتى بعد ذلك، لم ترد العلمانية ضمن أي إعلان رسمي لحقوق الإنسان» (102).
يبقى أن نقول أن الخطر الأكبر لغياب العلمانية هو خلق مجتمعات منافقة، تظهر خلاف ما تبطن، يتعلم أفرادها أن الكذب ومواربة الحقيقة هما أسلوب حماية. في غياب العلمانية يستتب منطق أن الغلبة للأقوى، وأن الكثرة تغلب الشجاعة، وأن للأكثرية أن تقمع الأقلية فارضة عليها مظاهر تعبدية لا تؤمن الأخيرة بها وإن إضطرت الى تمثيلها، وهي النظرية التي أقام عليها الفيلسوف جون لوك حجته تأييداً لفكرة العلمانية. في مقالات قادمة، لربما تكون هناك فرصة إستعراض آراء فلسفية أكثر لمفكرين وفلاسفة لم يجدوا مناصاً من العلمانية كتطبيق إنقاذي للخلاص من القمعين الديني والسياسي اللذين طالما تحالفا لتكميم الأفواه وسوق الأفراد كرعايا لا مواطنين. وأخيراً، في هذا الزمان والمكان من التاريخ البشري، ما المغضب في أن يكون لموسى دينه ولعيسى دينه ولأن يتعايشا بسلام تحت منظومة يتفقان ولا يستوليان عليها؟ لماذا تصعب علينا هذه الفكرة العادلة؟ لماذا نحتاج لاستعباد الآخرين باسم الحق ومن نحن في هذه البشرية كلها لندّعي إمتلاك هذا الحق أصلاً؟ هل نستطيع أن نتخلى عن غطرسة إمتلاك الحقيقة للحظة ونفكر في أجوبة الأسئلة؟