مقبرة جماعية
يقول الإعلامي المتميز تركي الدخيل في مقاله في جريدة الجريدة الكويتية ليوم الأربعاء 1 أكتوبر/تشرين الأول «العلمانية أساسها إلغاء الفوارق بين بني البشر، ذلك ان التميز يكون فقط في مكان العبادة أو البيت، ولهذا ألغت فرنسا العلامات الدينية والإشارات الإثنية، ومن يُرد ان يتباهى بالإشارات فليذهب إلى مكان عبادته، ذلك لئلا يكون هناك «الصراع الرمزي» في الشارع بين أصحاب الوطن الواحد، ليكون الانتماء الطائفي والمذهبي والديني ليس مجالاً للتحاسد والتباغض، وليكون معيار التفوق هو الالتزام الأخلاقي والقانوني، والانجاز القومي على أرض الواقع بعيداً عن التمييز والإشارات والعلامات.»
كتب الدخيل هذه الكلمات في اشارته إلى ان العلمانية هي طوق النجاة للبنان في بحر الصراع المتأزم الذي تعيشه. ان الحالتين اللبنانية والعراقية لهما حالتان صريحتان لتردي وضع الدولة الدينية أياً كان دينها، هي شرارة، لتمسك نيران العداء الديني في أوصال البلد ولا تتركها إلا رماداً، وما لبنان والعراق إلا أحدث وأوضح الأمثلة، فالتاريخ يزخر بقصص الامبراطوريات والبلدان العظيمة التي سقطت تحت وطأة الصراع الديني، والحاضر يزدحم بذات القصص المريعة منها الواضح كالحالتين المذكورتين ولربما نضيف لهما بدجة أقل أو أكثر مصر وتونس والبحرين وايران وبدرجات أكثر «مداراة وتسترا» دول الخليج برمتها وعلى رأسها الحالة السعودية.
لقد علمنا التاريخ ان البشر ينهشون في بعضهم دينياً وصولاً إلى العظم ثم يعودون جوعى، فلا نصر يمكن ان يشبعهم ولا قوة يمكن ان تهدئ من توحش رغباتهم الدينية في السيطرة وتفحش تبريراتهم للاستبداد. وما العلمانية سوى نتاج هذا الدرس القاسي الدموي المرير الذي لا يلبث العرب والمسلمون ان يحاولوا «تغريبه» تحت حجة انه ولد بسبب التعصب الكنسي والاستبداد المسيحي وعليه فهو نتاج محتوم لحالة الصراع البروتستانتي الكاثوليكي ولا يمكن ان ينطبق على الحالة العربية الإسلامية «الخاصة»، ولازالت هذه الخصوصية التي يدعيها الشارع ومثقفوه أحياناً غامضة، لا شكل لها ولا رأس يعلوها ولا قدمان تسندان أسفلها. فما هي خصوصية وضعنا التي تنأى بنا عن العلمانية؟ ان التقاليد العربية أكثر صرامة؟ ان الشرف عندنا أغلى من الدم؟ ان الدين الإسلامي هو الحق وبقية الأديان حطب جهنم؟ أوليست هذه الأفكار هي تحديداً سبب تهاوينا، اليست هذه الإدعاءات المغرورة الخاوية هي المعاول التي نحفر بها قبرنا الجماعي الكبير كل يوم؟
نحن حالة خاصة، نعم، حالة خاصة في صلفنا وتجمد أفكارنا، في اعتزازنا بتخلفنا، فنحن لا نعرف أمة ترقص رقصات النصر وترفق ذقونها فخراً وتنظم القصائد في الآخرين هجاءً ثم تستلف منهم لقمتها وركوبتها وحتى الملابس التي تغطي أجسادها كما هي أمتنا، أمة لا تستحي كثيراً أو قليلاً من ادعاء خصوصية وتفاخر بتقاليد وتعظيم شأن نفسها بدين هم جميعاً، نتاج تشددها وصلفها، ينقلبون عليها ويصبحون السبب في تهاويها. ليس هناك من جواب آخر لامتحان الطائفية الدامي في العراق ولبنان سوى العلمانية، ليس هناك من حل آخر يعيد لأقباط مصر، سكانها الأصليين في الواقع، مكانتهم وحقوقهم، سوى العلمانية، ليس من حل آخر لتثبيت أقدام الديموقراطية المرتقبة في تونس سوى العلمانية، أما ايران ودول الخليج، فليس لهم إلا الدعاء، فايران يحكمها نظام ملالي صارم، ولانه لا يفل الحديد إلا الحديد، فانها ستضحي كثيراً بالغالي من شبابها قبل ان تبدأ تتذوق من جديد ديموقراطية وعلمانية رئيس وزرائها المغدور الدكتور مصدق، وأما دول الخليج، فخلطة العادات والتقاليد البالية المعجونة بممارسات دينية متشددة، المكللة بتحالفات بين الحكومات والجماعات الإسلامية بشعار «نحميكم بالسيف وتحمونا بالفتوى» المزينة بالكثير من الأموال والقليل من الرؤية المستقبلية، فهؤلاء نصلي على علمانيتهم صلاة الميت. بالطبع هناك حالات لها وميض أمل وحالات تومض سراباً، فالكويت يقترب دستورها بشكل لا بأس به من الحالة العلمانية وإنْ تردت أحوالها في الثلاثين سنة الأخيرة، والامارات، ومثلها عمان ولربما قطر، تعيش حالة علمانية «شكلية» ولكنها مهددة بالزوال، وليست حالة مؤسسية مستقرة في قعر قوانين وحياة البلد. كما وان أي «حالة» علمانية يمكن ان تعيشها دول الخليج هي حالة تخلو من الليبرالية الحقيقية التي تعطي للعلمانية البعد الديموقراطي المطلوب. وفي كل الاحوال، لا تزال دول الخليج تعيش عادات صارمة تجعل من العلمانية حلماً بعيد المنال، ولربما الحوار الدائر في الكويت هذه الأيام حول كلية الشريعة في جامعة الكويت وما يتسببه هذا الحوار من صراع طائفي كلما خبىء لا يلبث ان يطفو على سطح حياتنا لهو خير دليل على أسوأ حال.
ليس هناك غير العلمانية، العلمانية الكاملة بانقى وأشد صورها لتنقذنا مما نحن فيه، فلقد مسخت حجة «غربية» العلمانية واختفى كل معنى لهذه الحجة في بحور دماء ضحايا السجال الديني، فلتكن أصول العلمانية ما تكون، لعلها من الفضاء الخارجي، إلا انها المنقذ الأوحد لنا الان من بشاعة صراعنا البدائي، فلا مفر منها إلا إليها، ولعلنا نبدأ قبل ان ننتهي وينتهي الأمل.