مجون كوني
أنا لا زلت هنا، الا أنني قد غادرت
لا أعزف جيتاري أو أغني أغانيي
لم يحدد هذين من أنا أبداً
أنا الرجل الذي أحبك الى النهاية
أنت آخر شخص سوف أحبه
أنت آخر وجه سأتذكره
وأفضل ما هنالك، فانني لن أفتقدك
لن أفتقدك
لن أحتضنك كما كنت أفعل
لن أقول أحبك للأولاد
لن ترينها في عيني
لن أتألم عندما تبكين
لن أعرف ما تمرين به
كل ما أقول أو أفعل
كل الآلام والأوجاع
شيئ وحيد أناني سيبقى
لن أفتقدك
لن أفتقدك
في وداع زوجته وأولاده، كتب جلين كامبل، مغني الكنتري الأمريكي، كلمات أغنيته الأخيرة أعلاه، كلمات يودعهم بها خارج وعيه، خارج ذاكرته. شُخص جلين بمرض الزهايمر، وقبل أن يسلبه المرض أعز ما يملك، قرر أن يوثق هو هذا «العزيز» في كلماته الأخيرة، قرر ان يخبر زوجته وأولاده ليس فقط بحبه العظيم لهم والذي سيكون الأخير في حياته، ولكن بالحقيقة القاسية المصاحبة، حقيقة ستبقى مفجعة ومريحة في الوقت ذاته: هو لن يفتقدهم.
ترهبني فكرة الفقد كثيراً، هو ليس خوف بالتحديد، هو كره معجون بوجل. لا أعرف كيف أشرح علاقتي بالفقد، أرى أن فناءنا الأزلي العدمي هو قهقهة كونية ساخرة تجاه وجودنا القصير السخيف، فحتى لحظاتنا الحياتية الوجيزة لا نحياها دون تذكير يومي من الكون بهذا الفناء، وكأننا به يعطينا لحظات ليذلنا بها ويعذبنا من خلالها. ينمو لدي إحساس بالتحدي لهذا الكون فاقع القساوة كل يوم، فأعيش أيامي مشيحة بوجهي عن المطرقة المعدنية الهائلة بين يديه، يهوي بها على رؤوسنا الصغيرة المنمنمة فيهرسنا تحت قوانينه المتناغمة حد الطرب، الصارمة حد الشراسة. أضع في مقدمة وعيي استخفافا بوجودي الانساني، لا يهمني فقده بلحظيته وعدميته، كأنه مزحة سخيفة تتكرر منذ ملايين السنوات، وأما في وعيي الخلفي، يختبئ هذا الكره المعجون بالوجل. الموضوع يأخذ بعدا شخصيا، وكأن هذا الكون، بكل أدواته الفنائية، كأن الدنيا بكل ما تصنع من أمراض وأوبئة وفيروسات وكوارث طبيعية، كأنها كلها تفعل في تحد شخصي لي ونكاية شخصية معي، يا لمرض العظمة، لا زلنا بعد كل ما عرفنا، نرى أنفسنا أحياناً مركز الكون.
وعليه عقدت اتفاقاً جاداً معه بأن أذهب أنا أولاً قبل الجميع، بكل تأكيد قبل أولادي وبكل احترام للعقد المبرم بيننا قبله هو. هكذا سيكون، فأنا لا أقبل أن أتعامل مع الفقد، لن أهبط لمستوى صراعه الرخيص ولن أعاني آلامه الحمقاء. في أول حديث عن الموضوع، لم يضحك هو من هذا العقد الذي يمكن لقوانين الزمن أن تخترق ثغراته بسهوله، لكنه، وبوجه جاد، اتهمني بالأنانية، وأن مجرد تثبيت هذه الفكرة في وعيي هو إهدار لفكرة تكافؤ الفرص أمام الزمن. لا آبه لتكافؤ الفرص، أخبرته، هنا أنا مصرة على أن تكون لي الأولوية، المسألة مسألة مبدأ، رهان قديم بيني وبين هذا الكون البارد. ليس في الموضوع أي رومانسية أو تضحية أو حب عظيم، الموضوع ينضوي على أكثر المشاعر أنانية ولربما قسوة، ينضوي على تحد ما فتئت أعيشه في جوانب حياتي حتى أنني أدخلته في الخاص منها، ينضوي على سخرية من كون يضحك في وجوهنا ضحكة رجل عصابة ماجن، فقررت أن أضحك فوق ضحكته، وأقرر فوق قراراته، ارتاح أنا أولاً، ولا أتعذب بفقد لا يأبه له هذا الكون البارد الجامد شيئاً.
ولكن الزهايمر، هذه القهقهة الكونية الماجنة الجديدة، أن يذهب الإنسان قبل أن يذهب، أن يبقى الجسد وتختفي الذكريات، أن تتلاشى المشاعر ببطء يوماً بعد يوم، كل يوم يغترب عمن يعرف أكثر، كل يوم تأتي مساحة فارغة جديدة فتسقط بينه وبينهم، إلى أن يأتي اليوم الذي وبكل بساطة، لا يعود يعرف أحبته فيه، لا يفرح لهم، لا يتألم لألمهم، لا يرغب في احتضانهم، لا يأبه لأخبارهم، يرتاح هو في غيابه ويتعذبون هم به، ولو كان هذا غياب مثل الموت، لو كان يأتي في لحظة صارماً قاسياً بارداً مثل الردى لأبرمنا له العقود مثل عقدي أعلاه، ولكنه يزحف بطيئاً ساماً حقيراً، يسحب الإنسان من بين أحبته، لحظة بعد لحظة، ذكرى بعد ذكرى، ينزع الحب والرغــــبة والود من القــــلب، قطرة بعد قطرة، فأي دعابة فاجرة يداعبنا بها الكون، وما يخبئ لنا في كمه بعد؟
يقول فيكتور هيجو «هناك لحظات تكون فيها النفس جاثية على ركبتيها، مهما كان وضع الجسد»، وقصة جلين كامبل دفعت بنفسي إلى ركبتيها حتى وان كان جسدي يقف متحدياً، مصراً على إبرام عقد انتهاء خدمته بنفسه، متعهداً الضحكة الأخيرة التي يعرف أنها لن تكون. ما هي الحكمة من كون بهذا المجون، من قدر بيولوجي بهذه السخرية، من وجود يؤكد لنا يومياً حقيقة الفناء؟