مئة عام
لا أعرف ما أكتب هذا الأسبوع والعدو المجرم يرش الملح على جراح عمرها مئة عام وتزيد، لا أعرف ما أكتب وقد حملت الآه تحت وطأة ألم لم يعد محتملاً، ألم جرح سبر غور النفس فسمّم كرامتها وانتهك وجودها وأنهى كل معنى لاستمرارها. ليس لدي ما أقول سوى تلك الكلمة التي ألقيتها في تجمع نظمته رابطة «شباب لأجل القدس» في الكويت، والذي جمع أطيافاً مختلفة من الشعب الكويتي ومن ضيوفه من الفلسطينيين والجاليات الأخرى المختلفة، أجلسنا الألم والحزن والغضب جميعاً متجاورين بعد أن فرقتنا الأفكار والسياسات والتوجهات. هو قدرنا وقدر قضيتنا الفلسطينية، أن نجتمع عند ألمها وأن تبقى تجمعنا وتذكرنا بقصورنا وتقصيرنا. وقد قلت:
هو تهكم القدر وسخرية المنطق وعبثية الأحوال أن نخرج إعتصاماً ضد واحتجاجاً على عنصرية كيان قام على العنصرية، ضد طغيان حالة قامت على الطغيان، ضد تطرف وجود قام على التطرف واستمرأ قمع الآخر وإذلاله بل وقتله وهو على أرضه، وجود صنع «آخر» من صاحب الحق القادم من عمق التاريخ، المزروع جذوراً في عمق الأرض.
صعب جداً أن نحتج على أداء الكيان الصهيوني اليوم وكأن أفعاله غير متوقعة، موجع أن نلوم عليه منع متعبدين الوصول إلى دار عبادتهم أو فرض إجراءات أمنية متعسفة تسرق لحظة روحانيتهم وكأن قمعه للآخر مفاجئ مستغرب، ففي احتجاجنا ولومنا إستغراب من كينونة بُذرت في تربة التطرف الديني اليميني، خُلقت في رحم التحالفات الفاسدة والسياسات الخربة ليأتي هذا الكيان المشوّه، ينهش في من حوله كل يوم، يسرق الأراضي ويقيم المستوطنات ويبني الجدران العازلة ويؤسس نقاط التفتيش المهينة. هذا هو التطور الطبيعي للفساد والأحقاد، للظلم والطغيان، لسرقة تمت في وضح النهار وعلى مرأى ومسمع البشرية جمعاء، اليوم نحصدها قمعاً وتعذيباً وبطشاً وقتلاً، اليوم نستلم مكافأة سكوت مئة عام، مئة عام من العزلة (مع الإعتذار لغابرييل غارسيا ماركيز) عزلة عن الأخلاق والمبادئ بل وأبسط نزعات الغريزة الإنسانية في حماية نوعنا والصد عن غيرنا من البشر.
هكذا هي حال أي كينونة تقوم على مفهومها الخاص للحق الإلهي المطلق، كينونة تدّعي حقاً دينياً في أرض حرة، سرقة بمعية الكلمة المقدسة المحفوفة بالسياسات الفاسدة. لا بد اليوم أن نتذكر أن الكلمة المقدسة هي كلمة الإنسان، وأن حرمة حياته وحرية تعبده وحقه في دور عبادته لا مساومة عليها جميعاً. ليست القضية اليوم هي قضية إغلاق الأقصى في وجه المتعبدين القاصدين وجه الله، هي قضية إغلاق باب حق إنساني خالص، قضية سرقة تاريخ كامل، قضية تعسف وقتل وقهر إشترى حقوق ملكيتها الكيان الصهيوني بمعية العلاقات والمصالح المشتركة التي لا ترى إنساناً ولا تعترف بحق، لا تفرق بين كبير وصغير، لا تشتم رائحة الأرض في الأجساد الفلسطينية المعلقة مفاتيح بيوتها على صدورها منذ مئة عام وتزيد.
كيف نقف هنا ننعى حق الصلاة المسلوب، وحق الحياة كله مسلوب، حق البقاء على أرض أجداد الأجداد مسلوب، حق الوصول الآمن للمدرسة مسلوب، حق الوصول للجار في مدينة مجاورة مسلوب، حق الفلاحة في حقول ملكها أجداد الأجداد مسلوب، حق التنقل بكرامة وسلامة مسلوب، حق النظر للضفة الأخرى، للجانب الآخر من الأسلاك الشائكة تفصل مدناً كانت واحدة، تعزل أناساً كانوا أهلاً، تفرق قلوباً كانت متصلة متوادة مسلوب؟ اليوم لا ننعى، اليوم لا نشتكي أو نبكي أو حتى ندّعي على الظالمين، اليوم يجب أن يكون أبسط، اليوم يجب أن يكون أعمق وأبعد، اليوم يوم الإنسانية ببساطة وجودها وحبها للحياة وبتعقيد روحانيتها ومفاهيمها ومعتقداتها، أن تقف في وجه الكيان الصهيوني فتقول له كفى، سرقت كل شيء، لكن والله لا، لن تستطيع أن تسرقه من قلوب الناس ولن تستطيع منع الناس من الوصول إليه، اليوم نستدعي الإنسانية جمعاء إن كان بنا ولنا، كبشر طبيعيين يحبون الحياة ويحترمون إنسانيتهم، أي أمل.