لا نستحي
انتفاضة تلي انتفاضة، الحجارة تصد الدبابات، السكاكين تقاوم المسدسات، والأمهات تقدم الأبناء والبنات على طبق من عشق للوطن كل يوم. انتفاضات الحجارة ما كانت في يوم انتفاضات ضد العدو الصهيوني فقط، بل هي انتفاضات ضد الرخاوة العربية، ضد التبلد الإنساني العام. عندما أشاح العرب والمسلمون والعالم بأكمله بالوجوه التي لا تستحي عن فلسطين، رفع الصغار والكبار الحجارة، فكتبوا أسطورة، ليس فقط من حيث الصمود، وليس فقط من حيث الثبات وليس فقط من حيث مقايضة الأرواح والدماء بعشق الوطن، ولكن كذلك من حيث نوعية السلاح المستخدم، من حيث نوعية المعركة: دفاع عن الأرض من الأرض، حجارة فلسطين تدفع عنها، التراب يستصرخ التراب، يحميه، يبث الرعب في قلوب أعدائه. صلصلت الأحجار كما السيوف، وصهلت الأتربة كما الأحصنة تحمل فرسانها، ووقف صف العالم العربي، ومن خلفه صف العالم الاسلامي، مصطفاً خلفهم العالم الدولي بأكمله، يتفرجون على معجزة، على إرادة، على عشق، مصطفين على مصطبات من تخاذلهم، متوجين بأشواك من مصالحهم ومطامعهم، كلهم، بلا استثناء.
والانتفاضة الفلسطينية ما وقفت عند حد، جربت كل شيء، كان هناك زمن اختطاف الطائرات، وزمن العمليات الانتحارية، والآن هو زمن الأسلحة البيضاء. ومع كل زمن تضحية جديدة، مع كل قصة مواجهة مسلحة. كنت أقول لا يمكن للعنف أن يكون هو الحل، لا بد من وجود حل آخر، لايمكن تبرير القتل بالقتل، لا يمكن إنهاء المأساة بمأساة. ثم حل الغزو العراقي على الكويت، فاكتشفت أن الحديث المثالي سهل، اكتشفت أنه رفاهية المنعمين بالراحة والأمان. بكيت على بغداد والسلاح الأمريكي يقصفها، وهللت للكويت وجيوش المشاة الكويتية تدخلها، وبين هذه وتلك تمزقت روحي وتساقطت مثالياتي وأصبحت أتشكك في كل شيء، كل شيء. إلا أنني وليس للحظة قد تشككت في انتفاضات الحجارة، شيء ما حول هذه الصخور الفلسطينية، حول قطع الأرض القديمة المتحجرة، حول اليد الفلسطينية التي تمسكها، شيء ما سبغ المعركة بالشرف والفضل، الحجر في اليد، واليد على القلب، والقلب ملك للأرض، انها المعادلة المقدسة ولا يمكن أن نفهمها على غير قداستها تلك.
ونحن أنانيون لدرجة لا يمكن تخيلها، أنانيون حد رغبتنا في أن يستمر الفلسطينيون في أداء هذا الدور المقدس الفاضل المثالي، نريد أن نشاهد الملحمة عن بعد، أن نحكم عليها من خلف شاشات الإعلام، أن ننطق بمثالياتنا ونحن في أمان بيوتنا، لا أحد يريد أن يتحرك، لا أحد يريد لشيء أن يتغير، فنحن، وبشكل مرضي غريب، نستمتع بعذاباتنا ونستمرئ الإهانات، تعودنا على دور الضحية، وما نحن بكذلك، فبتنا لا نعرف كيف نمارس غيره. حتى دور الضحية الزائف هذا لعبناه أمام الضحية الفلسطينية الحقيقية، أحيانا نظللها حتى لا يستطيع الآخرون رؤيتها وأحيانا نضللها فتضيع بين حواراتنا واستنكاراتنا الباردة. أنانيون نحن ولا نستحي من أنانيتنا.
يتساءل جدعون ليفي في مقاله ليوم 15 تشرين الأول/أكتوبر: «ما الذي اعتقدتموه؟ أن يجلس الفلسطينيون بهدوء إلى الأبد؟ هل اعتقدتم بالفعل أن إسرائيل قادرة على فعل ما تريد وأن يطأطئ الفلسطينيون رؤوسهم بخنوع؟ هل هذا ما فكرتم فيه؟ هل تعرفون أمثلة كثيرة في التاريخ حدث فيها هذا؟ هل هناك احتلال فظ استمر من دون مقاومة؟» ليفي في هذا المقال يسخر من اهتمامات الإسرائيليين السخيفة وإهمالهم لقضية احتلالهم لبلد آخر وتداعيات هذا الاحتلال، يساءل بلده حول الجرائم المرتكبة من دخول المستوطنين لبيوت الفلسطينيين، من تدني الخدمات المقدمة لهم، من الضرائب المرتفعة المفروضة عليهم، من اعتداءات العصابات على شبابهم، من «التحرشات في الحرم» من «إحراق عائلة الدوابشة» وغيرها، أن هل ظن الإسرائيليون أن مثل هذه الجرائم ستمر من دون نتائج؟ وأنا أسائل جيران فلسطين، أما استحينا مرور هذه الجرائم أمام أعيننا التي تذرف دمعة وتفوت أخرى من أجل المسلسلات التركية؟ أما استحينا في يوم؟.
ما زال العنف لا يشكل حلا في نظري، ولكن حتى أستطيع أن أعلن ذلك بثقة لا بد أن يكون الرأي مشفوعاً بحل، بوسيلة، بطريق لا تنحني فيه ظهور الفلسطينيين والعالم يقف متفرجاً، وفي ظل البلادة العربية والصفاقة العالمية، لا حل لدي ولا طريق، لا شيء سوى غضب ودموع وعذاب ضمير.