لا مكان
مذهل جداً حجم الجهل الذي «نتحلى» به تجاه الأديان «الأخرى»، وأقول مذهل لأننا نعيش في الشرق الأوسط، مهد الأديان الحديثة وعدد كبير من الأديان القديمة، بقعة منتصفة للعالم، توالى عليها الأنبياء والمبشرون والصالحون، فما خلق ذلك لنا سوى فِرق في قلب فِرق، فتحزب الناس خلف أنبيائهم وحاربوا بأسمائهم وفرقوا وشعبوا وضيقوا طريقاً كان من المفترض أن يكون واحد فسيحاً مترامي الأطراف.
في الكويت، وحسب علمي في معظم الدول العربية الأخرى، لا يتم التعرض لتواريخ الأديان، ناهيك عن فلسفاتها المختلفة، في أي من المراحل الدراسية الماقبل جامعية. تغترب هذه الأديان تماماً عن العقلية العربية الفتية، تاركة فسحة كبيرة للشائعات والمعلومات المغلوطة لتحتلها، ومن ثم لتبني في رحابها مستعمرات من النفور والكراهية بل والخوف المبغض تجاه «الآخر» المختلف. لا تغيب تواريخ وفلسفات الأديان فقط، بل وحتى تلك التي للطوائف المختلفة، فمعظم المدارس العربية تدرس منهجاً سنياً ذي توجه واحد، منهج يستبعد ما عداه عن طريق الحق، فارضاً نمطاً واحداً من العبادة والتفكير. في الكويت مثلاً، تكون الطائفة الشيعية حوالي 30 بالمئة من الشعب الكويتي، هذا بخلاف طوائف وأديان أخرى تعيش بيننا مثل البهائيون والبهرة ثم المسيحيون والبوذيون والهندوس وغيرهم. وعلى الرغم من أننا مجتمع منفتح نسبياً، عدد أجانبه هو ضعفي عدد مواطنيه ويزيد، الا أننا لا ندرس في مدارسنا سوى توجه أوحد لطائفة واحدة لدين أوحد في قالب يفترض الحق المطلق لهذا التوجه، دون أن يترك باب التفكير موارباً لاحتمالية صواب الآخرين أو حتى لامكانية تقبل اختلافهم.
وكذا هي المناهج في معظم الدول الخليجية كما والعربية الأخرى، مناهج فرخت لنا أجيالاً لا تعرف من الحق سوى مفهوماً واحداً، ولا من الطرق سوى طريقاً واحداً، ولا من التفكير سوى اسلوباً واحداً، صورة مكررة تدور في دائرة مغلقة لا يستطيع صغارنا منها الفرار. لذا نحن في مكاننا، لذا نحن لا يمكن لنا أن نخطو للأمام، فالدوائر ليس فيها تقدم وتأخر، ليس فيها أمام وخلف، الدوائر تذهب وتعود لذات النقطة، الدوائر منغلقة على ذاتها ولا تذهب عنك الا لتعود اليك، الدوائر جحيم من التكرار الجهنمي الذي يذهب بنا الى اللامكان، حيث نحن اليوم.
هذا الاغتراب والالتفاف في ذات الدائرة يتسببان في اعاقات اجتماعية حقيقية في مجتمعاتنا الحالية التي ما عادت قادرة على أن تنغلق على نفسها ودينها وفكرها، وعليه، فهي تقع في مآزق غريبة ومواقفة كوميدية في تعاملها مع الآخر، وهي مآزق ومواقف غالباً ما تتخلى عن كوميديتها بعد حين لتتلبس رداء العنف والاضطهاد تجاه هذا الآخر المختلف. فمثلاً، تتلبسنا في دولنا العربية فكرة نجاسة الآخر الغير المسلم، مما يصعب الحياة كثيراً على العديد من السيدات الملتزمات دينياً في تعاملهن مع العاملات في منازلهن، فتشوب العلاقة الكثير من المعوقات وأحياناً الفروض المتعبة للسيدة والمهينة للعاملة. كما وتحدد الكثير من المعلومات المغلوطة عن الأديان الشرق آسيوية مثلاً سبل تعاملنا مع الجالية القادمة من هناك، حيث ينظر لهم على أنهم عبدة حيوانات، غريبي الأطوار، محبي للأصنام، دون أدنى دراية بالعمق الفلسفي المرتبط بالطبيعة واحترام كل أشكال الحياة الذي هو لهذه الأديان الفلسفية القديمة. فلقد جبلنا نحن على فهم نوع واحد من الأديان ذي العلاقة العمودية بين «العبد» الضعيف والاله القوي، في حين أن الكثير من الأديان الفلسفية لا تعتمد هذه العلاقة العمودية، بل وفي الكثير من الأحيان، هي لا تدور حول اله، ولكن حول فلسفة، أو فكرة، أو حقيقة يستوجب الوصول اليها.
ان اغتراب عقولنا التام عن الأديان المختلفة فلسفياً وعقائدياً عن ديننا متزامناً مع انفتاح مجتمعاتنا على الآخر ان كان في صور استجلاب العمالة الأجنبية أو سفرنا نحن للخارج يخلق حالة ثنائية متضادة تعيشنا حاجة للآخر ونفور منه، تجاوراً معه واغتراباً عنه، حالة غريبة خطيرة قد تؤدي للكثير من العنف اذا ما لم يتم تخفيف حدتها من خلال الاقتراب وجدنياً بدرجة أو بأخرى من هذا الآخر والتعرف عليه والتقبل الحقيقي «لاختلافه».
ولن تكتمل الصورة سوى بتعلم لغة جديدة مهمة جداً، اللغة العبرية، والتي لو كنا نفكر بعقولنا عوضاً عن مشاعرنا الغاضبة، لما سمحنا لطفل عربي أن يكبر دون أن يتعلم هذه اللغة، ولو من باب افهم عدوك، ولكننا لا نفعل، حتى ليكبر صغارنا والعالم الخارجي يعيش بينهم وهم يعيشون فيه، ولكن دون أن يفهموه، دون أن يستطيعوا التواصل معه. ترى، لم نعاقب أنفسنا وأجيالنا القادمة بهذا الشكل؟ أي خير نروم مما نفعل؟