في الأصفاد
إن ملبس الإنسان حرية شخصية، فإن اختارت المرأة أن تتحجب أو ألا تفعل، فهي امرأة حرة قوية صاحبة أمر نفسها مهما كان اختيارها، ولكن هل تختار النساء المسلمات فعلاً؟ تلك التي تقرر ارتداء الحجاب، هل اختيارها إرادي خالص أم انه اختيار مروع القلب مرتعب الجذور؟ لطالما شكل الوجود «الفيزيائي» للمرأة مشكلة في عالمنا العربي الإسلامي تحديداً، فالمرأة هي الرمز المفضل في الشعر، وهي الموضوع الأرق في الكتب، وهي المادة الأكثر تبجيلاً على ألسنة رجال الدين، ولكن ما أن تظهر مادياً بوجهها وجسدها حتى يصحبها الشيطان وتصبح مصدراً للاغواء والشرور، وعليه، وانطلاقاً من فكرة اتقاء الفتنة ومقاومة الإغواء، ترسخت فكرة «حجب» المرأة واقصاء وجودها المادي قدر الإمكان، وهو إقصاء يتم من خلال الملبس مرة، بتحريم العمل المختلط مرة أخرى، وبأكثر صوره تطرفاً في تحريم القيادة كما هو الحال في السعودية وفي عزلها المجتمعي التام كما هوى الحال في أفغانستان مرات أخر.
تسهب فاطمة المرنيسي في كتابها «الحريم السياسي» في ذكر أصل كلمة حجاب موضحة معناها كما تستشفه من النص القرآني ومن الحدث التاريخي ومن الأصول اللغوية، وهي تعتقد أن لحادثة زواج النبي من زينب ابنة جحش تثبيتاً لمعنى لم يكن مقصوداً من الحجاب، حيث ورد في القصة بمعنى الفصل بين الرجال، النبي من جهة والضيوف الثقال الذين لم يكونوا ليغادروا من جهة أخرى، كما أنه نزل في سنة «مفجعة بصورة خاصة» (116) كما تقول المرنيسي بسبب الظروف السياسية المحيطة بالنبي والتي أدت إلى ورود كلمة حجاب لتحمل أكثر من معنى ومغزى منها ما تراه المرنيسي سياسيا بحتا. «من الواضح ان مفهوم الحجاب هو أحد تلك المفاهيم (الأساسية) لمفاتيح الحضارة الإسلامية،» تقول المرنيسي، «كمفهوم الخطيئة في الحضارة المسيحية، أو مفهوم الاعتماد credit في الحضارة الأمريكية الرأسمالية. وإن تخفيض تمثيل هذا المفهوم بقطعة من القماش فرضها الرجال على النساء كي تحتجب عندما تمشي في الشارع، هو بالفعل افتقار لهذه العبارة، ان لم نقل إنه تفريغ لها من معناها، وبخاصة عندما يعرف أن الحجاب حسب الآية القرآنية وتفسير الطبري أعلاه (تورده المرنيسي في أكثر من موقع في كتابها)، «نزل» من السماء ليفصل الحيز بين الرجلين» (121).
وحيث إن القائمين على تفسير النصوص هم في خالصهم من الرجال، كثيراً ما تبتعد التفسيرات عن الدلالات التاريخية لكلمة حجاب وما يستشف منها من معنى حقيقي للكلمة. أصبحت الكلمة اليوم، معنى وتنفيذاً، تمثل حاجزاً للمرأة عن المجتمع اتقاء فتنتها لا حماية لها كما يدعي البعض، فالمرأة «الجسد والجنس» كما كانت مفهوماً سائداً إلى منتصف القرن العشرين، تستمر تحيا بيننا، نحن العرب والمسلمين، ونحن نتوغل في القرن الواحد والعشرين بذات المعنى الشهواني المخيف الجالب للمعاصي. المرأة، تقول سيمون دو بوفوار في كتابها «الجنس الثاني» (1949)، هي «ببســـاطة ما يقضي الرجل أن تكون، وعليه فهي تسمى «the sex» أو الجنس، وهو ما يعني أنها تظهر خاصة للذكر كمخلوق جنسي» (33، الترجمة لي). وعليه، يتأتى الحجاب في تفسيره الأبوي الشوفيني بمعنى «وقائي» للرجل الكسول الذي لا يود أن يعمل المنطق ولا أن يحرك قوة الإرادة، فيضع العبء كاملا ًعلى المرأة التي تلتزم بوقاية الرجل من الإغواء بأن تَحمل جسدها هماً ثقيلاً ومادة شـــيطانية ومصدراً للآثام مدى حياتها.
فإن دق «علماء» الدين والمفكرون والفقهاء من الرجال على العقل المجتمعي الجمعي بمطرقة الحرام والإثم والإغواء ليل نهار، ان لوحوا بالعذاب الدنيوي والآخروي، والأخير منه يأتي في صور مرعبة تتعلق بها المرأة من أعضائها في النار وتكوى وتحرق في صور تعذيبية سادية بشعة وبشكل أبدي، فكم يا ترى تملك المرأة من مساحة حرية نفسية حقيقية لتتخذ قراراً إرادياً خالصاً لتغطية جسدها وشعرها؟ أن تهدد إنساناً ما بالعذاب والحرق والتعليق والتمزيق، أن تحمله سوء السمعة في الدنيا وسوء المنقلب في الآخرة، ثم تدعي أنك تقدم فلسفة تحترم الإرادة الفردية وتحض على حرية الاختيار، أفليس في ذلك سيكوباتية حادة تعكس خللاً نفسياً مريعاً في العلاقة بين الرجل والمرأة في مجتمعنا؟ كيف يسمى هذا اختيار وأحد الخيارين يتضمن عذاباً وحرقاً وضروباً من التعذيب المريع؟ ليس هناك من قيد أفظع من هذا الذي يغطون به عينيك، فتتوهم الحرية وأنت ترفل في أغلالك. لا تتأتى حرية الاختيار إلا إذا تحرر العقل من الخوف والجسد من العار، وهذان مع الأسف يكمنان في عمق التفكير العربي الشوفيني، بهما تحكم الأنظمة ويتحكم رجال الدين ويسيطر الرجل على المرأة، والخلاص منهما يتطلب ثورة فكرية عظيمة تستجلب الليبرالية الاجتماعية كاملة وفي أنقى صورها.