فوق الغيمة
مثلما يبني الناس المعابد، يضعون فيها الكتب المقدسة وتفاسيرهم لها ثم يختبئون بين وريقاتها متى ما أمعنوا في الناس قمعاً وتخويفاً واستغلالاً وإهانة، كذلك يبني الناس المحاكم، يضعون فيها كتب القوانين وتفاسيرهم لها، ثم يقفزون بين ثغراتها بعد أن يمعنوا في الناس ذات الإمعان. بالعموم، نحن مخلوقات غريبة بدائية التطور، لا تتعلم من تاريخها شيئاً، تعيد أخطاءها بتكرار مريب، وتغطي عورات أفكارها بورق شفاف لا يكاد يستر شيئاً.
لا زلت أتذكر لحظات الإطاحة بمحمد مرسي، كنت متجمعة مع عدد من الصديقات، نشهد التجمع التاريخي على أرض الكنانة ونتناقش، انقلاب هذا أم ثورة أخرى؟ توصلنا إلى أنها حالة بين الاثنتين، انقلاب ثوري أو ثورة انقلابية. سادنا شعور بسيادية أهل مصر، من هذا الذي سيجرؤ على أن يرفع صوته في وجوههم، من هذا الذي سيفكر أن يلخبط عجين مستقبلهم وان كان مكلفاً بالمشي عليه، من هذا الرئيس القادم الذي سيتجرأ فيطغى؟ ما كان ممكناً تصور ذلك في تلك اللحظة.
بدت مصر أكبر من الدنيا وبدا شعبها أقوى حتى من مخاوفنا المترسبة وتاريخنا الطويل المعجون بالدماء. ان كان أحد مستطيعاً، فهم المصريون، سيتغلبون على هذا التقديس الإلهي للحاكم القائد، سينزلونه منزلة البشر وسيحاسبونه ولا محاسبة كلينتون يوم فضيحته على مونيكا.
أربعة وعشرون ساعة كانت هي كل مدة الأماني، بدأت بعدها «حيايا» الفكر القديم تصعد على السطح، وبسرعة هائلة عصية على الحسبة الفيزيائية، تدهورت الأحوال ساحبة الأماني والأحلام معها. نقرات الطبلة انتشرت مبدئياً من خلال قنوات الإعلام العربية، تبعها صوت أوكورديون مرتفع من القنوات المصرية، حفل ترويجي حزين عصي على التصديق.
بقينا، نحن عشاق مصر والمؤمنين بقيادتها التاريخية لبقية الدول العربية، متعلقين بأهداب الحلم، أن «لا بد لليل أن ينجلي»، لا بد للاغماءة من إفاقة، إلا أن ما حدث عاد بنا تاريخياً سنوات للوراء، مذكراً ببداية العشق الأزلي بين المؤسسة العسكرية المصرية وبين شعبها، وهو عشق له ظروفه المفهومة وأسبابه المعقولة، إلا أنه عشق تحول، بحكم طبائعنا البشرية البدائية إلى تقديس مع الزمن، ومثلما نفعل تاريخياً في تحويل الأولياء إلى قديسين ثم ملائكة وأحياناً آلهة، نفعل كذلك بالحكام فنعليهم ونعشقهم ونقدسهم ونؤلههم، وفجأة نصحو ونحن على الأرض وهم فوق الغيمة، حيث لم يعد لسد باب الطغيان من سبيل.
أتفهم العشق المصري للمؤسسة العسكرية فهذا عشق ضارب في عمق التاريخ، لكنني توقعت الأحداث الأخيرة أن تزيل غمامة هذا العشق فتضعه في مكانة الصحيح: محبة وامتنان وليس تأليهاً وعبادة. وها نحن «ناخذ لفة ونرجع تاني» فيصبح الرئيس السيسي عصياً ليس فقط على المحاسبة بل حتى على أقل القليل من النقد، فهذا وحده كفيل بأن يضعك في خانة العملاء الخونة، وها هو الرئيس السابق محمد مرسي هو ومجموعة من قياديي «الإخوان» يتلقون أحكاماً بالإعدام، ومقارنة بسيطة بين الحكم على مرسي والحكم على مبارك تخبرك كم أن الدنيا، العربية تحديداً، دوارة، وكم هي يوم لك ويوم عليك، وكم هي حبة فوق وحبة تحت. الدنيا الغربية تعلمت، تحاول أن تمد مستقبلها إلى الأمام، أما نحن فالدرس عصيّ على فهمنا، ندور وندور، ونعيد ونزيد، نأخذ صفرا ونكرر الإجابة الخاطئة، والنتيجة، راسب ونعيد السنة، سنة لا تريد أن تنتهي.
خسارتها أرض الكنانة أن تحمل المزيد من الدماء في تاريخها، لقد تحملت ما تحملت ليس فقط من أجل نفسها ولكن من أجل العرب جميعاً، واليوم يقنن الطغيان ويختم الانتقام بخواتيم المحاكم وتتعارك الأنظمة في بحر من دماء أبنائها. حكم الاعدام بحد ذاته عار على البشرية يجد المتطور منها في الغائه حفاظاً على روح هذه البشرية ومعناها، وحكم الاعدام الانتقامي أو الضماني (أي الذي يحكم به كضمانة سياسية) هو حكم أكثر خطورة ليس على الإنسانية ومبادئها فقط، ولكن على المستقبل السياسي الذي، في حالة مصر، تم تغيير اتجاهه بحدة وسرعة مروعين بهذا الحكم. ان ما يقرره الأحياء يؤثر بهم ولا يؤثر في الأموات، بمعنى، قرار إعدام مرسي لن يؤثر كثيراً به (يا لها من كلمات مضحكة حزينة) فهو سيموت وينتهي، الا أن المتأثر الحقيقي هو مصر وأهل مصر ومستقبل مصر، الذي يبنى اليوم والدماء تملأ الفجوات بين لبناته، ثم العالم العربي بأكمله والبشر جميعاً.
نحن سلسلة مترابطة، ما يفعله النفر منا في أقصى الشرق ستصل تردداته حتماً لذاك الذي في أقصى الغرب، وكلنا مسؤولون، كلنا بلا استثناء.