عماد حمدي
نعيت الأسبوع الماضي نموذج البطل المهذب الذي كان في يوم وماعاد، البطل الذي نرى نموذجه على تويتر تحديداً، ترتفع شهرته ويزداد عدد متابعيه بارتفاع درجة وقاحته وإزدياد درجة تلفظه على الآخرين. ركب العامة في العالم كله هذه الموجة، وأصبحت البطولة تقاس بقسوة الكلمات، حيث هبط تقويم التهذيب وحسن التحاور وما عاد لهما قيمة حقيقية أو جاذبية فاعلة عند الناس. حتى الساسة الذين كانوا يحملون الدبلوماسية على أكتافهم رداءً يخفون به تشوهات الأفكار، خلعوا الرداء وصعدوا قمة الموجة، وأصبح لدينا اليوم برلمانيون ووزراء ومسؤولون كبار يشوحون بأياديهم ويرفعون عقيرتهم ويتكلمون «بالبلدي» من دون حساب للذائقة العامة وتأثرها بهذا المنهج الجديد.
لكن، تبقى أهمية تأكيد أن استيائي هذا استياء شخصي، نفوري هو حالة خاصة لا أعممها ولا حتى أبتغي من وراء إعلانها هدفا، لربما سوى التذكير النوستالجي بالبطل الذي كان، بالمشهور المحبوب الذي ما عاد، افتقادٌ لنموذج ومعنى كانا يجعلان الحياة أكثر جمالا، ولكن هل كانا يجعلان الحياة أكثر قيمة؟ هنا تستوجب تحية البطل الوقح الذي يؤدي دورا كبيرا ويعطي للحياة قيمة ما كنا لندركها لولا سلاطة لسانه ووقاحة تعابيره. سبق أن كتبت عن أهمية هذا البطل «الصغير» كما يسميه ديفيد بروكس الذي سبق كذلك أن إقتبست كلماته التي يقول فيها: «يعرف معظمنا أن متسببي الإثارة وغيرهم من الرموز الغريبة يفون بأدوار عامة مفيدة. فالساخرون والمتهكمون يكشفون عن ضعفنا وغرورنا عندما نشعر بالكِبر. إنهم يخرقون الانتفاخ الشخصي للناجحين. هم يوازنون عدم التكافؤ الاجتماعي بأن يهبطوا بالأقوياء الجبارين الى الأسفل. عندما يكون هؤلاء مؤثرين هم يساعدوننا على مواجهة نقاط ضعفنا بشكل مجتمعي، حيث أن الضحك هو أحد أهم التجارب التي تربط الناس بعضهم ببعض.»
من هنا، وحفظا للمبدأ الأهم والأكثر قداسة في الحياة البشرية، ألا وهو مبدأ الحرية، فلا بد من تأكيد أن التحفظات الشخصية، الآلام النفسانية، والشعور بالإهانة كلها لا يمكن أن تبرر وتحت أي ظرف أي انتقاص لمبدأ الحرية المبجل أو أي إسكات لأي صوت. ليس لحرية الرأي سقف، الرأي طائر، جميل أو قبيح، لا يمكن قصقصة جناحيه، لذا، أوجعنا الرأي، أشعرنا بالإهانة، آلمنا نفسانيا، تعدى على معتقداتنا، تطاول على عائلاتنا أوأصولنا، نال من دولنا أوحكوماتنا، ليس لأي أو كل هذه الآلام والأوجاع أن تلمس شعرة من رأس الحرية، هذه الثائرة العنيدة المقدسة.
طبعًا، هناك مبررات قصوى تقف أمام وجه الحرية، مثل أمن الناس وحمايتهم، فلا يمكن أن تكون حُرًا في إيذاء الناس جسديًا. كما أن الحرية تقف عند عتبات الكذب، لا يمكن أن تكون حرًا في الكذب على الآخرين وتشويه حقائق حياتهم. هذه الحدود للحرية واضحة يمكن تَبَيُّنها، الضبابية والاختلاف دومًا ما يكونان عند الخيط الرفيع بين الرأي والقذف والتجريح، يكونان عند التقويم بين حق الإنسان في إعلان رأيه وحق الآخر في حماية كرامته وسمعته. طبعًا، كلما كان المجتمع منفتحًا مرتاحًا مع ذاته وهادئًا ومتطورًا، كانت الغلبة لحرية الرأي فوق كل شعور بالمهانة حيث تمتد مساحة الحرية شاسعة فوق الإهانة، وكلما كان المجتمع محتقنا غاضبا مضغوطا بآلامه السياسية وتعقيداته الدينية، كانت الغلبة «لفزعة الكرامة» حيث تنكمش مساحة الحرية لمصلحة الإهانة، حتى يستشعر الناس الإهانة في كل قول مهما صغر وفي كل نقد مهما هان.
شخصيا أتوق للبطل المهذب الذي لا يحتاج لأن يشتم ليظهر مقاوما لنظامه السياسي أو أن يقبح ويكفر ليبدو حاميا لدينه، إلا أنني أعرف قيمة هذا الشتّام وذاك المقبّح والمكفّر، أفهم أهمية وجودهما، فنموذجهما يقول ما لا يقوله غيره، ويكشف ما يستحيي الإنسان المهذب أن يكشف عنه، هو نموذج يعري المجتمع لكنه في الوقت ذاته يعلي قيمة الفكر النقدي الجاد فيه مهما قسا. وفي النهاية، فإن الحرية تستحق كل ثمن ندفعه فيها حتى لو كان الثمن انتشار بطل الدرجة الثانية، الذي، مثل أبطال أفلام الثمانينيات الرخيصة التي سادت سينماتنا، يغرق المشهد ويتصدر المواقف. من أجل الحرية، حفاظاً على قداستها، كله يهون، حتى لو غاب عماد حمدي وما عاد أحمد مظهر هو فارس الشاشة العربية.