شمس
المواضيع ذاتها تتكرر مع كل قدوم للشهر الفضيل، أحدها ذكرته في المقال السابق والذي يدور حول العلاقة بين المجاهرة بالإفطار ومشاعر المسلمين، وآخر، وهو موضوع مقال اليوم، يدور حول صحية الصوم علمياً وهي النقطة التي يجتهد الكثير من علماء وعامة المسلمين على إبرازها وتأكيدها والتدليل عليها بآراء يفترض أنها علمية بعضها له شيء من الصحة ومعظمها لم يُسمع بها من قبل. ليس هناك من سبب منطقي للدفع بالفائدة العلمية للصوم، أو لغيره من العبادات والتي عموماً لا تحتاج لإثبات علمي لفوائدها، فالمفترض أن لها بعداً روحانياً نفسياً هو الذي يمكن أن يدور الحوار حوله، حيث أن العبادات يفترض أن تكون مبنية على ممارسات تأملية تغذي الروح وتلهم النفس، لا تقوي النظر وتحسّن عمل الجهاز العصبي.
إن هذه المحاولات المستمرة لربط الدين بالعلم، أو لمحاولة إثبات صحة التعاليم الدينية علمياً، أو للإجتهاد في إنتقاء آيات والدفع بتفسيرها في إتجاه التنبؤ العلمي، كلها محاولات إستشكالية تضع النص الديني في مواجهة غير ضرورية مع العلم، فالعلم متغيّر والدين ثابت، العلم يقوم على الشك والدين يقوم على القطعيات، العلم يدفع لهدم نظرياته وإعادة تركيبها لتوافق المعرفة والمعطيات المتجددة والدين يدفع لتثبيت أفكاره ومفاهيمه ويجتهد في المحافظة على شكلها الأًصلي. إذن لا الطريق واحد ولا الهدف واحد، فطريق العلم هو الشك في حين طريق الدين هو اليقين، وهدف العلم هو التغيير والتطوير في حين هدف الدين هو الثبات والتعزيز، العلم مشغول بأداة السؤال «كيف» في حين يتعامل الدين مع أداة السؤال «لماذا»، العلم يرحب بالنقد والدحض في حين الدين يقوى ويستمر بالإيمان الذي يتجنب التشكّك والتساؤل والإنتقاد.
إن نتاج المحاولة المستمرة لربط التوجهين، مع الأخذ بعين الإعتبار الطبيعة الشرسة للعلم في النقد ودحض المثبت والسعي المستمر للتغيير، ستضع الدين وتعالميه في طريق هذا القطار المتوحش السريع. ليس هناك من سبب للسعي لإثبات الفائدة العلمية الصوم، فالصوم في النهاية عبادة روحانية يفترض أنها تقوم على معاناة تورد المثوبة في النهاية أياً كان تفسير معنى هذه المعاناة أو الغاية منها. إن الإمتناع عن شرب الماء لما يقرب من الإثنتي عشرة ساعة وخصوصاً في الأجواء الصيفية الحارة لا يمكن أن يكون مفيداً علمياً على سبيل المثال، إلا أن هذا التعليم الديني لم يتم فرضه على أساس صحته العلمية أو فوائده البدنية، إنما بني على أساس معناه الفلسفي وبعده المعنوي. هذا، ومحاولة الربط المستمرة بين العبادة وفوائدها العلمية تضع معظم العبادات في مأزق لا داعي له، فلا يمكن أن يكون الحج على سبيل المثال مفيداً علمياً بما ينتج عنه من حشر لملايين البشر في أماكن محدودة وبشكل متلاصق مما يشجع إنتقال الأمراض ويرفع نسبة الإصابات البدنية والمناوشات الكلامية والجسدية، إلا أن الغرض من الحج ليس هو صحة الإنسان البدينة، الحج معني بمعانٍ أخرى مختلفة لربما أهمها الإرتحال عناءً من أجل الإله ومحاولة إزاحة الفوارق الطبقية ولو على مدى أيام بين الحجاج، وهو ما أصبح في الواقع منتفياً بالنسبة للكثيرين هذه الأيام بما نسمع من مخملية حملات الحج ذات الخمس والسبع نجوم.
إن هذه المحاولات ذاتها لصبغ النص القرآني بصبغة علمية تنبؤية قد خلقت مأزقاً لا يجب أن يكون حين التعامل مع نص روحاني أخلاقي. فمن محاولات لإثبات المعجزات الشفائية للقرآن الى الدفع بعلمية توصيفه مثلاً في موضوع التطور الجنيني أو حالة القمر الى الإستماتة في التفسير لفرض معاني تنبؤية على آياته، كل هذه من شأنها أن تجعل هذا النص عرضة للدحض والنقد العلميين، وعندما يكون العلم طرفاً في الموضوع، فلا يمكن عندها الإحتماء بقدسية أو تقاليدية، سيهبط العلم بسكينه الحاد يشرح ويحلّل بلا رحمة أو هوادة أو إعتراف بعيب أو حرام أو تمييز لأي خط أحمر.
الصيام فريضة، من إعتقد فيها لا يحتاج لإثبات علمي عليها، بل لربما المعاناة والضرر البدنيان يكونان مدعاة مثوبة لا مدعاة شك خصوصاً للمــــؤمن، فالإيمـــان، من لفظه وتوصيفه، هو إعتقاد بما لا دليل عليه ولا إثــــبات علمي له. أنت لا تؤمن أن الشمس نجم مشتعل في الفضاء على سبيل المثال، الموضوع لا يحتاج لإيمانك لأنه مثبت علمياً تراه بعينيك وتختبره على مسام جلدك، الا أنك تحتاج لأن تؤمن بوجود الجنة والنار اللتين لا دليل عليهما ولا إثبات علمياً لوجودهما. الأخيران يحتاجان لما يسمّى faith أو الإيمان، وهو الإعتقاد الروحاني بما لا يمكن تمييزه بالحواس الإنسانية الخمس. وماذا لو أتى العلم بدلائل قاطعة على ضرر الصوم مثلاً، هل يعني هذا التوقف عن ممارسة هذه الفريضة؟ هل يبيح ذلك إلغاءها من المنظومة الدينية؟
لقد قطعت الحوارات الإنسانية والعلمية طريقاً طويلاً، ونحن في مكاننا نراوح، ذات النقاشات البائرة كل سنة، لا معنى حقيقياً لها، لا ناتج عنها، لا تفتح سوى باب نقد قاس لا يحتمله المسلمون أًصلاً ولا يستطيعون مجاراة جرأته ولا يجب عليهم ذلك، فالمسلمون ليسوا كلهم علماء ولا خبراء ولا يفترض بهم الدفاع عن عقيدتهم علمياً، المسلمون، مثلهم مثل بقية أصحاب الأديان في هذه الدنيا، معنيون بتعاليمهم روحانياً ونفسياً وأخلاقياً، ولا يجب بهم أن يحمّلوا أنفسهم أو النص الديني أكثر من ذلك.