ذكاء
يعيش عالمنا ونعيش نحن فيه حياتنا بذكورية مطلقة، أهدافنا وغاياتنا وأساليب الوصول إليها كلها ذكورية، أمنياتنا وخيالاتنا، وحتى تصورنا لما بعد الحياة، كله ذكوري بحت، ولربما هنا تكمن مشكلة البشرية. نحن لا نزال نعيش بمنطق الذكر «الألفا»، الأقوى والأعلى مرتبة بين أترابه، نعيش بمنطق قوة الجسد وقوة السيطرة على الأرض. الجسد والأرض، هذان هما العاملان الذكوريان الأساسيان اللذان دخلا البشرية بأجمعها في حمام الدم هذا. ليس مرمى الحديث هنا عداء للرجل، بل هو نقد للمنطق الذكوري، والاختلاف شاسع، فالذكورية أو الأبوية هي حالة تسكن العقل لا الجسد، وهي حالة بدائية لا ترى أبعد من القوة الجسدية ولا السيطرة الأرضية. وعلى الرغم من التطور الإنساني الكبير الذي حدث في العشرين ألف سنة الأخيرة، إلا أن بقايا واضحة لهذه الحالة البدائية لا تزال ملازمة للإنسان ولا تزال تتسبب في الكثير من العنف والعداء، حيث نراها تطفو بوحشيتها وقبحها بين الحين والآخر على وجه البشرية المزوق بأنواع مختلفة من المساحيق التجميلية التي لا تنفك تعجز عن تغطية كل الدمامة الماضية والقادمة.
كل هذا الصراع، كل هذه الدماء، كل هذه الوحشية والعنف والقبح، وهناك في أقصى الفضاء، مجرة ضخمة تتجه بمجملها نحو الأرض، يقدر العلماء اصطدامها بكوكبنا بعد نحو خمسة بلايين من السنوات، أي بعد ساعات قليلة بمقياس الزمن الكوني. هذه المجرة ستنهي الأرض وما عليها، وسنذهب للعدم، ولن نكون بعدها ولن يكون جنسنا ولا كوكبنا ولا مجرتنا بأكملها، ولن تكون كل الآلام والآمال والأطماع.
هذا ويعتقد العلماء أن البشر سيفنون أنفسهم بأنفسهم في وقت أقرب بكثير من زمن اصطدام المجرة بكوكبنا، حرب ما، قنبلة ما، تلوث، أوبئة، استنزاف، لن نعدم وسيلة لانهاء حياتنا القصيرة البائسة على الأرض. أي مصير هذا؟ أي حكمة كونية وأي هدف نبيل يمكــــن أن يتحقـــق من هذا الفناء؟ ومع كل بؤس ولا منطقية ولا غرضية هذه الحياة، وكأن العذاب القادم والفناء الذي ينتظر البشرية غير كافيين وحدهما. نمعن نحن في تعذيب أنفسنا ومن حولنا، نقصر في أعمارنا ونغرق أرضنا ذات العمر اللحظي بدماء بعضنا البعض. فالمنطق الذكوري لا يعرف سوى العنف ولا يترجى، عن قصد أو غير قصد، سوى الفناء.
يتحــــدث جــــــــون جيلـــيــــس في كتـــابه الــــرائـــــع The Human Shore عن هذا المنطق الذكوري في التعامل مع أرضنا، تحديداً في تفريقنا بين اليابسة منها والماء. تعتقد البشرية، كما يقول جيليس، أن تاريخها كله مرتبط باليابسة، فمنها أتت وإليها ستنتهي. يتصارع البشر بضراوة على الأرض، يعتقدون أن حياتهم بدأت وستستمر على الأراضي المنغلقة، وينسون السواحل والماء، حتى أنها لا تدخل الا قليلاً في حكاياهم سواء عن بدء الحياة أو عن نهايتها.
فالإنسان خلق من الأرض وسكنها عندما كانت جنة فردوسية، ثم عندما خالف الأمر الالهي المقدس، طرد من الأرض الخصبة، إلى تلك القاحلة، فكان عقابه أرضا جرداء كما سيكون ثوابه أرضا غنية عودة للجنة الموعودة. يقول جيليس إن البشر كانوا، وإلى درجة كبيرة لا يزالون، ينظرون لمياه البحار والمحيطات، على أنها مساحات فراغية مخيفة، يقطعها الإنسان ليصل ليابسة أخرى. لم يفكر الانسان أبداً في تاريخه المرتبط بالمياه، فالتاريخ الانساني يبدأ، في معظم القصص المجتمعية، من اليابسة وينتهي بها، في حين أن حقيقتنا هي من وإلى المياه. هذا التفكير، يقول جيليس، يعكس مرة أخرى ذكورية عنيفة، هي في الواقع المصدر والدافع وراء صراعاتنا ودمائنا المسفكة.
فلأننا نعتقد أننا نبدأ من اليابسة وننتهي إليها، ولأننا نعتقد أن ثوابنا جنة فردوسية وعقابنا أرض قاحلة، نتذابح نحن من أجل الأرض، نتقاتل لنستحوذ عليها، نترجى التبريرات الدينية والوعود الأخروية، لنستحوذ على قطعة يابسة، لنكون الأقوى، لنكون الذكر الألفا.
غزة بين اليابسة والمياه، لا ترحمها هذه ولا تنقذها تلك. غزة ضحية صراعات ذكورية أبدية، غزة سبية عقل لا يتطور، ومنطق لا يتنور، وعيون عمياء لا تريد أن ترى أن الفناء قادم حتماً، فلم كل هذه الدماء؟ لم كل هذا العناء؟ الموت قادم والفناء قادم، والكون سيتوحش في يوم فيقتلنا جميعاً، ستنطفئ شمسنا أو ستصطدم أرضنا أو سنفجر أنفسنا بأنفسنا، وسيكون هناك منا من سيشهدون هذه الحظات الأخيرة المرعبة المدمرة، فلم استعجال القدر؟ هل تعرفون جنس مخلوق أقل ذكاءً منا نحن بني البشر؟