«حبسي أنت، أنت حبسي، وحريتي أنت»
لربما هي الثقة تنساب بين يديه ومن عينيه، لربما هي قلب كبير، رحمة ومحبة عامرة، لربما هي مبادئ صلبة وأخلاقيات رفيعة واحترام جم لمن هو أضعف، جسداً أو مركزاً، لربما هو الترفع عن الصغائر، لربما هي تلك الصفات التي تصنع رجلاً!
عندما نتجالس نحن النساء، ننم على الرجال نماً حسناً، وأهم نقاط النميمة هي التي تتمحور حول تلك الجزئية، ما الذي يجعل الرجل رجلاً في نظرنا؟ كيف يمكنه أن يحصد قلوبنا وقبلها احترامنا؟ ولطالما كان لي رأي مخالف للصديقات، فالرجل «الحمش» في نظري هو الذي لا يرتفع صوته، انما يغضب بنظرات عينيه، والقوي في نظري هو الذي لا يظهر غيرة أو انفعالا من أجل «امرأته»، انما تنساب ثقته رقراقة، يمشي فيقول «يا أرض انهدي» تملؤه الثقة أن «امرأته» لن تتطلع لأحد غيره لأنه لا يوجد من هو أفضل منه. هذا الرجل هو الذي يمكنه أن يستحوذ على قلب المرأة، وهو الرجل الوحيد الذي يخيفها.
استكملت و»رجلي» أربعا وعشرين سنة من الزواج هذا العام، أسميه رجلي لأنه أكثر من زوج، لأن اللفظة لها معان أبعد وأعمق. ورجلي هذا انسان غريب حد الريبة، أتضاحك معه، وأنا أحوقل وأبسمل في سري، أن «لا بد أنك تخفي شيئاً ما». في يوم ما، سأصحو على «بم» ضخمة وسأكتشف أنك مؤامرة، ترتسم ضحكته الرائقة أبداً ويقول، «اذن ننتظر والأيام بيننا». وتمر الأيام بيننا فعلاً، يزيد فيها هو رواقا وثقة، وأدور خلالها أنا حوله وحول نفسي، أبحث في ثنايا حياتنا، أين هي المؤامرة؟
ورجلي هذا لم يقف يوماً خلفي، هو دوماً أمامي، في الصدارة، يشرع صدره ليتلقى الضربات. في احدى المرات تلقينا اتصالاً مؤذياً بعد مقابلة تلفزيونية لي، على الطرف الآخر، رجل هو ليس برجل، تلفظ بما لا يقول الرجال. تلقى رجلي الاتصال، أنهاه بهدوء وعاد الى «الكيبورد» ينهي عليه عملا كان قد بدأه. تسحبت الى جانبه، اعتذرت، قلت «آسفة أن وضعتك في موقف كهذا»، ابتسم ملء فمه وقال، «حقاً؟ سنضيع الوقت نتحدث عن هذا المريض؟».
رجلي هذا انسان مريب حد التوهم. لم يستحوذ عليه شك يصغره أو غضب ينتهك هيبته أو قسوة تغتال رجولته. رجل رائق هادئ، يضمنني في جيبه بشكل مستفز. لم أشعر معه في يوم بأنني أقل، والأهم أنني لم أشعر أنه يتصنع هذه المساواة، تأتيه في فعله وقوله طبيعية، وكأنها تحصيل حاصل في مجتمع يعليه ويقويه. حتى بيته يشبهه، بواجهة زجاجية تغطي الوجه بأكمله، بيت مغمور بالنور، يدخله من كل جانب، بيت واضح، ليس فيه أسرار، وهكذا هي حياته وحياتنا، عائلته الصغيرة، معه، كلها في النور، ما نؤمن به نفعله، ما نسره نعلنه، هو سمح لنا، هو قلدنا أجنحتنا، وهو الذي ربطني بكل ذلك الى الأبد.
هذا النوع من الرجال مخيف، تهابه المرأة في غيابه قبل حضوره. فالرجل المستبد يفرض قواه في حضوره، يرفع صوته و»يحمر» عينيه ويحرك يديه، ولكن ما أن يختفي من المكان حتى…يختفي، لا يعود له أثر، يصغر جداً فيصبح نقطة بعيدة غير مؤثرة. هذا الرجل المستبد تكذب عليه المرأة، تستهزئ به، تعامله كما تعامل فيلا كبيرا، تتجنب غضبته في حضوره وتضحك على أذنيه الكبيرتين في قفاه. هذا الرجل هو أضعف الرجال، ففي غيابه الجسدي يغيب حضوره وتأثيره واحترامه. أما الرجل المخيف فعلاً فذاك الذي يملأ على المرأة المكان حتى في غيابه، يحضرها بروحه، تجدها تنظر للدنيا بعينيه وتحكم على الأشياء بمقاييسه، فتخاف تخييب ظنه أو تغيير رأيه بها. هذا الرجل يصبح منبهاً يلاحق المرأة، راداراً يحوم فوق راسها، من دون أن يبذل أي مجهود، من دون أن يفتعل أي غضب، هو كذلك لأنه يؤمن أنه كذلك.
وحده الرجل المهزوز يرغي ويزبد، وحده يرفع يده، وحده يشتهي القيادة والسيادة حتى ليصبح عبداً مأموراً لهما. هذا الرجل لا يستطيع أن يظهر شفقة أو محبة أو ثقة حتى وان أراد، فهزته الداخلية أعظم من رغباته الانسانية. أما ذاك الثابت الرائق الواثق، فهو حر نفسه، يستطيع أن يفعل ما يريد ويشعر بما يريد ويحب كما يريد، لا تحكمه كلمة الناس، لا تخيفه أحكامهم، لا تصغره آراؤهم، وحده تغمره الثقة فيصبح أعلى من النقد وأقوى من ضعف الاستبداد وأجسر من جبن العنف.
وأنا في حريتي محبوسة بهذا الرجل، مغلولة الى ثقته ورحمته ومحبته، ملكني وهو يقلدني أجنحتي، استعبدني وهو يحرر طاقاتي وأحلامي، فأي كارثة تلك؟ أربع وعشرين سنة أيها الرجل الغريب في الزمن العجيب، فكل عام وأنت بخير.
من أغنية لفيروز