تعلونا السماء فقط
«وعندما كل هؤلاء المكسورة قلوبهم
والذين يعيشون في العالم يتفقون
ستكون هناك إجابة، دعها تكون
فعلى الرغم من أنهم قد يتفرقون
لا تزال هناك فرصة أن يروون
ستكون هناك إجابة، دعها تكون».
هكذا كتب بول مكارتني في رائعته الغنائية Let It Be والتي خط كلماتها في وقت عصيب من شباب حياته، حيث تراكمت عليه المشاكل، وانغلقت نفسه على المخدرات والسكر والضياع، حتى جاءته أمه المتوفاة في الحلم، والتي كان اسمها ميري، فيذكرها في الأغنية باسم Mother Mary، إشارة إلى فكرة الرحمة الأنثوية العامة المتمثلة في شخصية السيدة مريم في الفكر المسيحي، لتخبره أن الأمل موجود والألم محدود والدنيا تتغير، فدعها تكن. هذه الأغنية ومن بعدها عدد مميز من الأغنيات التي كتبها البيتلز كلها تدعو للسلام والمحبة، تدعو لنبذ التقسيم وتفهم الآخر، ولربما أكثرها تأثيرا هي أغنية Imagine والتي كتبها جون لينون بعد مرور سنة على أغنية مكارتني، يدعو فيها لتخيل الدنيا بلا دول، بلا ممتلكات نقتل من أجلها ونموت، بلا طمع ولا جوع، بلا جنة وبلا جحيم أسفلنا، «تعلونا السماء فقط».
ترى هل نستطيع أن «ندعها تكون»؟ هل نستطيع أن نترك الخلق للخالق؟ هل نستطيع تخيل الدنيا بلا دول ولا ممتلكات ولا أيديولوجيات تفرقنا؟ واذا ما تفرقنا هل نستطيع أن نحب «الآخر»، على الأقل أن نتقبله على الرغم من الاختلاف، أم أن البغض بسبب هذا الاختلاف هو قدر بيولوجي ونفسي علينا؟ تحضرني هذه الأسئلة التي تبدو «كليشيهية» الطعم، ستينية (من ستينيات القرن الماضي) الشعور، وكأنني بفستان أبيض فضفاض ودف صغير أقف في وسط صفحة «القدس العربي» أغني أغنية ميلودرامية من أجل السلام، أقول تحضرني هذه الأسئلة دوما بعد أي وكل جلسة من حوارات تويتر التي تشع منها تلك الكراهية المسرطنة، فتجدني، وهذا تشبيه الأصدقاء، وقد لبست ضفيرتين على جانبي رأسي، وعلقت السلاسل الملونة على صدري، وبدأت أبشر بالسلام وأعظ حول المحبة والقبول.
ينتقدني الأصدقاء بسخرية، أحداهن قالت لي هناك من لا طائل من محاورته، أنت تجادلين من هم في عداد المفقودين في صحارى الكراهية، تزعجيننا وتزعجين نفسك، أخرى أرسلت لي صورة مكتوب عليها بالانجليزية «لا تحاول أن تكسب الكارهين، فأنت لست jackass whisperer» وهذا مصطلح انجليزي يشير لمن يحاول شرح وتبرير نفسه حتى للحمار مع الاعتذار عن التعبير. صديق آخر يقول، وقتك الذي تقضين تتحدثين فيه حول السلام والمحبة مع الكارهين قد يستثمر بشكل أفضل لو أعددتي عجة بالخضار، طعمها ألذ، نتائجها أوضح، ونسبة النجاح معها لا تقارن بما تطبخين بكلماتك القادمة من زمن الحياة البوهيمية. أحياناً أشعر أن سخريتهم تحمل الكثير من الصحة، فالوقت هو أغلى ما نملك، الا يستحق أن نقتصد في استخدامه؟ والكراهية وبائية، أفلا تستحق البعد عنها؟ والارهاب جثة مسجاة، أيأتي خير من النفخ في فمها والضرب على صدرها غير ذي قلب؟
نعم، هناك خير في محاولة الإنعاش، فلربما دق قلب توقف منذ زمن، ونعم هناك حاجة للاقتراب من الكراهية، فكيف نغيرها اذا ما لم نقترب منها، ونعم لا بد أن نسرف في استخدام الوقت، وما أفضل من السلام نغدق عليه من وقتنا؟ لا أدري كيف يفقد البعض من الأصدقاء الأمل في شاب لم يتجاوز العشرين، لربما يتحدث حديثا داعشيا، يكره وينبذ ويحرض، ولكن هل كان ليكون كذلك لو أنه عاش حياة غير حياته وفي مكان غير مكانه؟ هل عيبه شخصي ولد به؟ تسببه لنفسه؟ أم أننا جميعا زرعناه وسقيناه وعند الحصاد تجدنا رفضناه؟ ألا تشير كراهيته لكسرة ما في القلب، لمعاناة ما في امتداد العمر؟ أيحتاج هذا الانسان للمزيد من الكراهية نحتج بها على كراهيته، أم هو يحتاج، أقولها مغامرة بأن أبدو ساذجة أو متصنعة، لشيء من العطف والحنو الإنسانيين؟
أحياناً، يبدو لي أن رفض الحوار مع الآخرين هو استعلاء «ليبرالي»، يشعر أصحابه أنهم أفضل، أنهم أكثر ثقافة، أكثر تفتحاً، فلا يعتقدون أن هذا يستحق وقتهم وذاك يرتقي إلى حوارهم، وعليه يبقون في دوائرهم المغلقة يحاورون أنفسهم، يصفقون لأنفسهم، هم ذاتهم يتجمعون في التجمعات ذاتها، هم «بحذافيرهم» يدورون النقاشات ذاتها، فتذهب منهم وتعود إليهم، لا يسمعها أحد، لا يهتم بها أحد. نفقد نحن، من ندعي «اللبرلة» في العالم العربي، الأمل سريعاً، نتعب سريعاً، وتعطب مشاعرنا سريعاً، فنحن «مثقفو الأمة» لا يجب أن يجادلنا أحد فضلاً عن أن يغلظ لنا القول. أنا أقول، لأصدقائي الساخرين أقول، فليغلظ «المختلفون» لنا القول، ولنظهر ليبراليتنا بأن نغفر و»ندعها تكون» فيم نحن مستمرون في نشر رسالة الحرية والمحبة آملين أن يرى الناس ذات يوم، وأن تأتي الإجابة ذات زمن. لا شيء يجمل فضيلة الحرية مثل الصبر والحب والإيمان بغيرنا من البشر، كل البشر.