بلا ذمــة
في أحد تجمعاتنا النسائية، أتت محمرة العينين، واهنة الجسد، بدا لنا أن قلبها ينبض بقوة، كدنا نراه يرتفع وينخفض أسفل معطفها الأنيق. تحدثنا كثيرا وضحكنا كثيرا، إلى أن قطعت هي حواراتنا قائلة: كيف يمكن لذلك أن يكون هو الحق والعدل؟ فهمنا جميعا ما تشير إليه، وشعرت أنا شخصيا بهذا الإعصار النفسي الذي تمر به هذه السيدة المتدينة، والتي تقف اليوم أمام تدينها متسائلة، وإن بطريقة غير مباشرة، كيف يمكن لكل هذا أن يكون حقا وعدلا؟ تقترب هي من الثلاثة عقود في عمر زواجها، زواج أفنت فيه روحها وقلبها لرجل هجرها قبل فترة طويلة رافضا أن يطلقها. يقول أنه يحبها ولكنه لا يستطيع أن يبقى زوجا لها، لذا اختار هو أن ينفصل عنها ويبقيها «على ذمته» حسب التعبير التملكي الذي نستخدم في مجتمعاتنا. يقترب أحيانا وأحيانا يبتعد، وتبقى هي تدور في دائرة مفرغة منهكة، حتى انكسرت روحها وانطفأ شيء كان في عينيها وخرج السؤال جارحا مؤلما من بين حنجرتها ولسانها ورغما عن كل تدينها ومعتقداتها الراسخة: كيف يكون ذلك هو الحق والعدل؟
لم أكن أود أن أستغل لحظة ضعفها، لكن الكلمات خرجت رغما عني: كل أنظمة حياتنا ذكورية عزيزتي، بما فيها النظام الديني المعمول به، كل ما نعيش به مصمم ليخدم الرجل ويلبي رغباته ويبرر زلاته ويفصل العادات والتقاليد والأنماط المجتمعية وحتى الفتاوى لتبرر وتحلل وتنسق وتجمل كل ما يرغب ويشتهي ويريد. نظرت لي نظرة منكسرة، بدت منهكة، وبدوت أنا قاسية إستغلالية. تراجعت سريعا، قلت كلاما كثيرا عن الحظ والقدر، وعن قوتها وجمالها وقدرتها على البدء من جديد. تداخلت السيدات بحديث عن تجارب متشابهة، فالإشتراك بالتعبير عن الألم يخفف من الشعور بالوحدة ويقدر الموجوع على حمل آلامه. قدرت أنني يجب أن أسكت، وصرفت بقية الليلة أنظر لبشرتها الصافية وملبسها الأنيق، أنصت لصوتها الهادئ، مكتوم بعض الشيء كأن معظمه يخرج من أنفها، فيه حزن وحب ولربما شك، شك ما كانت لتستشعره أو حتى تقبل بنقاشه لو كان الظرف غير الظرف والألم غير الألم.
كان لا بد لهذه السيدة أن تحيا حياة غير هذه الحياة، كان يجب أن يكون قدرها غير هذا القدر، لكن الدنيا تكالبت عليها والفهم الديني دق مساميره صالبا إياها على أرض موحشة، تُركت فيها لآلامها وأحزانها ومشاعرها الحارقة بالخيانة والغدر والهجر والتي بدت جميعها مبررة إجتماعيا ودينيا. عادت فقالت: كيف يقولون المرأة هي العاطفية، لم أزِل في يوم، بقيت متمسكة بأعمدة بيتي وتحملت من الألم ما لا يستطيعه رجل لأحمي البناء والأولاد، فمن منا العاطفي الأهوج الآن؟ كان بودي أن أقول لها أن عاطفية المرأة هي الحجة التي أمسكها الفهم الديني على مدى قرون ليشرع بها للرجل ويفصل على أساسها كل الإباحات له ويفتح من خلالها كل بوابات الرغبات والشهوات التي يمكن أن تخطر بباله ويقرر بسببها كل الجوانب القيادية الحياتية والسياسية والإجتماعية والإقتصادية لتكون تحت يديه، فكلما صعد نقاش عن حق إجتماعي أو قيادة سياسية صلصل شعار «المرأة مخلوق عاطفي» ليسد عليها حقها الإجتماعي بضرورة الرقابة عليها وليحرمها من القيادة السياسية بحجة ضعف قدرتها المنطقية التي دائما ما تتقدمها عواطفها، لكنني صمت، ما يجدر بي أن أستغل ألمها لأثبت رأيي، ليست اللحظة لحظة صراع جدلي، كانت لحظة ضعف أظهرها للعلن ألم وصراع داخلي وشعور بالمهانة والخيانة لا يملك المرء منا أمامها سوى أن يصمت إجلالا لآلامها ومساعدة لصاحبها على إجتيازها.
الى أن تصبح المرأة ذات قوة إجتماعية متساوية تماما مع الرجل في حياتها الخاصة (مع التحفظ على إستخدام الرجل كمقياس للقوة) سنبقى نتجمع ذات التجمعات، ونفترش ذات الآهات، وتتمزق أرواحنا بذات القسوة بين معتقدات نتبعها ونحترمها وحقائق حياة نعيشها ونعانيها. إلى أن يساوي الفهم والتفسير الديني بين الجنسين تماما، مُستقبلا المرأة ككيان إنساني خالص لا نقص فيه ولا عيب ولا إختلاف عن الرجل، سيبقى هذا العذاب مستمرا يضعضع نفس المرأة ويهز كيان الأسرة ويخل ميزان العدل الطبيعي بين البشر الذين ليتعايشوا بلا طغيان أحدهم على الآخر يجب، ببساطة ومباشرة ومنطقية، أن يتساووا تماما دون قدرة أحد على آخر ولا حق فائض لأحد على آخر ولا سلطة تملك لأحد على رقبة آخر. منطق بسيط.