الدنيا معمل كبير
الدكتور محمد قاسم، العقلية العلمية الجبارة التي نفتخر بكونها تنتمي إلى الكويت، هو مؤسس السايوير بودكاست الذي يمكن تحميله على التلفون والاستماع من خلاله لمحاضرات علمـــية مشوقة ورصينة. في إحدى محاضراته الصوتية تلك، تحدث د. محمد عن الإيثار كصفة بيولوجية وسيكولوجية عند كل الكائنات الحية والتي من بينها الإنسان، وقد تحدث الدكتور عن الإيثار كصفة خاصة في المملكة الحيوانية، والتي ترتفع جدا عند قمة هرم المملكـــــة، أي عند الكائــن الإنساني، والذي يبدو أنه، مثل غيره من الكائنات الحيوانية المختلفة، في أحيان كثيرة يقــــدم على الإيثـــــار الخالص دون التطلع لتحقيق أي مصلحة أو الحصول على أي عائد، ولكن هل هذا صحيح؟ وهل هناك إيثار خالص؟
مما فهمت من المحاضرة الجميلة أن للإيثار دوما دوافع مصلحية، فنحن نؤثر أحيانا لحد التضحية بالحياة من أجل استمرار نوعنا، حيث أن جيناتنا تدرك، وإن لم ندرك نحن بوعينا الإنساني، أنها ستنتقل من خلال آخرين نحن نؤثر لهم. هنا يطرح الدكتور سؤالا مهما: إذا كانت الجينات تنتقل من خلال عملية التكاثر، وإذا كان المؤثرون هم عادة من يفقدون حياتهم، فكيف تستمر صفة الإيثار في الكائنات الحية؟ كيف يستمر انتقال هذه الصفة في حين أن حامليها يختفون أسرع من الحياة؟
يقول الدكتور ان الإيثار يكون أقوى عند الكائنات كلما ضاقت دائرة العائلة، أي أننا نؤثر بشدة لأبنائنا، نؤثر أقل لأبناء عمومتنا، ثم نؤثر أقل وأقل للغرباء، فكلما بعدت المسافة البيولوجية قلت ممارسة الإيثار، وبهذا، فإن من يملك الصفات النبيلة التي تدعو للإيثار سوف ينقلها من خلال الآخرين الأقرب له والذين سينقذهم بإيثاره هذا.
مثلا، اذا ضحى شخص من أجل أخيه، فإن لديه نسبة مرتفعة لنقل جيناته من خلال هذا الأخ، واذا ضحى من أجل اثنين من أبناء عمومته فلديه نسبة نقل جيناته كذلك من خلال كليهما، وهكذا.
وكلما ابتعدت القرابة البيولوجية، كلما احتجنا إلى عدد أكبر من الأشخاص لننقل جيناتنا من خلالهم، ولذلك فنحن نميل لأن نؤثر لأخ واحد، ثم لاثنين أو ثلاثة من أبناء عمومتنا، ثم لعدد أكبر من الغرباء، فكلما ابتعدت القرابة، كلما احتجنا لعدد أكبر من البشر لنستطيع أن نقدم الإيثار، وبذلك نضمن انتقال جيناتنا. إذن الكائنات الحية يمكن أن تؤثر على نفسها كلما اشتدت صلة القرابة لتضمن بقاء صفاتها.
نحن هدفنا البقاء، كما يقول الدكتور، بغض النظر عن الجسد الذي سيحتوينا، المهم هو استمرار جيناتنا. إذن، الإنسان مثل غيره من الكائنات، يؤثر على نفسه لينقل جيناته، الا أنه كذلك متطور اجتماعيا ويتأثر بمحيطه أكثر من غيره من الكائنات، لذا يمكنه أن يكون مؤثرا حقيقيا بنوايا صادقة لربما لضمان استمرار النوع الإنساني ككل، ولربما، مثلما قال الدكتور في ختام محاضرته، لضمان استمرار أفكاره التي يحب ومبادئه التي بها يؤمن.
في خضم التفجيرات التي نعيشها في أنحاء الشرق الأوسط المنكوب، والتي زحفت باتجاه تركيا «الإسلامية» التي نكبت هي كذلك بعودة السياسة الدينية، أو الدين السياسي، إلى شوارعها التي ما كادت أن تجف من دماء حروب دينية طويلة حتى عادت لتصبغ بأيديولوجية رئيس الوزراء القديمة المتجددة، هذه التفجيرات التي تتسلل الآن إلى الغرب لتصعب الحياة وتغلق أبواب حريات طالما اعتزوا بها، فتحول المطارات إلى ثكنات وتحـــــد من حريات ممارســـة الأديان وتتحكم في المظهر والملبس وغـــيرها، مما أوردناه لهم وأجبرناهم عليه، في خضم كل ذلك لا يمكن تفادي السؤال: لماذا يـــؤثر المفجرون الإرهابــــيون؟ ومن أجل ماذا؟ في التاريخ الإنساني هناك قصـــص متعـــددة للتضحية بالنفــــس من أجل المبدأ والخير الأعم، أناس يقررون إنهاء حياتهم ليعيــــش آخرون، وهذا يمكن فهمه وتفسيره سيكولوجيا وبيولوجيا، كما أوضح الدكتور محمد، ولكن عندما يقتل أحدهم نفسه حاصدا معه آخرين أبرياء دون أن يعرف عنهم شيئا مباشرا، وذلك طمعا في متعة أبدية ولذة جسدية، فكل الدوافع الأخرى المتمثلة في الدفاع عن الدين ونشر الرسالة الإلهية يتم تحفيزها في الواقع بوعود بهذه المتع والملذات، كيف يمكن تحليل حالته هذه بيولوجيا؟ أي شر هو يحاول أن يورث وأي مبادئ فناء هو يحاول أن ينشر؟
هناك نظرية غاية في الغرابة والكوميدية تقول إن البشر لربما هم عينات بيولوجية متباينة وضعتها كائنات فضائية في مناطق مختلفة على سطح الأرض لتدرس تطورها وتفاعلها، لو كانت النظرية حقيقية ترى ماذا وضعت هذه الكائنات الخبيثة في عينة الشرق الأوسط وكيف عبثت بها؟