الدرة المكنونة
انتهى قبل أيام ماراثون مشي نظمته الجمعية الثقافية النسائية في الكويت بمناسبة اليوم العالمي لإنهاء العنف ضد المرأة في العالم، وهو نشاط رائع لقي صدى واسعا على النطاق المحلي، إلا انه يستدعي نقاشاً عميقاً حقيقياً حول أسباب استمرار مثل هذا العنف البدائي في العالم ككل وأسباب استمرار انتعاش تبريراته في عالمنا العربي والإسلامي على وجه الخصوص. تعرف د. رجاء بن سلامة في كتابها «بنيان الفحولة» ثقافة العنف ضد النساء على أنها «كل الممارسات الفعلية والخطابية، وكل القيم والصور والرموز التي تفضي إلى العنف ضد النساء، أو تشجع عليه أو تفضي إلى استبطان العنف والدفاع عنه من قبل النساء أنفسهن، أو تفضي إلى تشجيع ضحاياه على الصمت عنه وعدم اللجوء إلى سلطة القانون لفرض العقاب على المعتدي» (101).
تؤكد د. بن سلامة أن العنف منتشر في كل المجتمعات المتقدمة والمتخلفة، إلا أن المختلف هو طريقة التعامل معه من حيث: «مدى اعترافها وتوعيتها بالظاهرة… مدى إنشائها للسياسات والممارسات ومدى سنها للقوانين التي تحمي النساء من العنف… مدى إيجادها للهياكل التي تؤطر ضحايا العنف، وتعيد إليهم القدرة على الكلام والتفكير…» (101).
وللعنف ضد المرأة أشكال كثيرة، جسدية، لفظية، معنوية، ذهنية، فضرب المرأة تحت أي مسبب، التلفظ عليها بما يجرح كرامتها أو يجنسنها ويبعد آدميتها، التهديد المستمر حتى المبطن منه لسمعتها، والتخويف المستمر لها باستخدام العقوبات الدنيوية والآخروية، كلها أنواع من العنف الشديد الممارس ضد المرأة. كما أن للعنف مصادر متعددة تتأبط تبريرتها، فالعنف الاجتماعي يدعي الحفاظ على المرأة «الدرة المكنونة» والعنف اللفظي والجسدي يدعيان التأديب الذي تحمده العادات والتقاليد والتعاليم الدينية.
بلا شك تترسخ صور العنف في دولنا العربية الإسلامية وتتكاسل الأصوات في الاحتجاج عليها بسبب من العادات والتقاليد الاجتماعية والدينية، والتي من خلالها تترك المرأة عرضة للعنف الهمجي المبرر. تذكر د. بن سلامة واقعة جاءت في تقرير منظمة العفو الدولية لسنة 2004 حين لم يتمكن مندوبو الحكومات لأول مرة من الوصول إلى إجماع على النتائج بسبب الخلاف على الصيغة المستخدمة في التعبير عن التزام الهيئات الحكومية الدولية بإنهاء العنف، حيث وصف أحد المراقبين الاجتماع قائلاً: قبل نصف ساعة فقط من انتهاء الدورة التي استمرت 15 يوماً وقف ممثل إيران، يؤيده مندوبا مصر والسودان، ليسجل اعتراض حكومته على الفقرة (صفر) التي تنص على أنه ينبغي للدول أن تدين العنف ضد المرأة وأن لا تتذرع بأي عرف أو تقليد أو اعتبارات دينية للتنصل من التزامها بالقضاء عليه (اقتباسات مختلفة 103- 104). ان هذا الاعتراض العربي الإسلامي على التكوين اللغوي للقضاء على العنف إنما يشير إلى «عنف ثقافي» كما تسميه د. بن سلامة، إنه عنف عميق مغروز في النفوس حيث «تشترك الضحية وجلادها في نفس التصورات عن العالم ونفس المقولات التصنيفية»، وأشد أنواعه «هو ذلك العنف الرمزي الذي يبدو بديهياً ويفرض نفسه على الضحية والجلاد والقاضي/ ولا يكاد يحمل مبررات له، ويقول عن نفسه إنه ليس عنفاً» (104).
تؤكد د. بن سلامة على أن كل عنف ضد المرأة يشتمل على تمييز، فهو عنف قائم على خصوصيتها البيولوجية كأنثى، عنف يتعامل معها على أنها «كائن مؤذ أو مصدر فتنة للرجل» حتى ان أشهر العنف اللفظي الموجه للمرأة يشــــير اليها على أنها مومس وأقصى درجات الشتيمة للرجل تشير اليه على أنه أنثوي التصرف (105).
تشير د. بن سلامة إلى أنه لا يزال العنف يستمد قواه من الفرق الجسدي بين الرجل والمرأة، وهو الفرق الذي اكتسب قوى رمزية، فحتى إذا ما كانت هناك امرأة أقوى جسدياً، فإنها تشعر بضعفها وانكسارها المعنوي أمام جسد الرجل القادر على قمعها. وفي مجتمعاتنا، شديدة التمييز الاجتماعي والديني ضـــد المرأة، تتصاعد درجات العنف ضدها كذلك حيث إن «التمــــييز يــــؤدي إلى العــــنف» (105). تشير د. بن سلامة إلى حقيقة أن على المرأة حق الطاعة، وهو ما يسوغ تعنيفها اللفظــــي والجسدي، وهي لا تتساوى في الإرث مع الرجــــل مــمـــا يشـــكل لـ «عنف بنيوي» (106) وأضيف أنا أيضاً أن المرأة تحمل كذلك على عاتقها منفردة مســــؤولية الشــرف الـــتي تســـوغ تعنيفها النفسي والجسدي. إن ترسخ هذه المفاهيم اجتماعياً ودينياً سيبقى مــــبرراً صلـــباً ليس فقــــط للاستخدام العلني للعنف ضد المرأة من قبل الرجــل ولكن كذلك لقبولها به هي، الضحية، وتبريرها لمنطلقاته، وهذه هي أقصى درجات العنف، غسل دماغ الضحية لقبوله وتبريره.
الخلاص من العنف يتطلب الخلاص من التمييز، والخلاص من التمييز يتطلب قلباً للإرث الاجتماعي والديني، وتغييراً جذرياً لكل المفاهيم التي بنيت عليهما، وهذا يتطلب إدراك الضحية بحد ذاتها لكينونتها المعنفة. وحتى ذلك الوقت ستبقى المرأة تضرب وتشتم وتختن وتحرم حرياتها وحقوقها في عالم يعلنها جوهرة مصونة ويبطنها كائناً «ناقص عقل ودين».