الحال المايل
بعد ما أذيعت مقدمة، أو «برومو»، مقابلتي الأخيرة (ستذاع كاملة، مساء، كتابة هذا المقال إنترنتيًا وليس تلفزيونيًا) التي ذكرت فيها أنني لا أعتقد أن هناك إشارة واضحة لوجوب تغطية الرأس في النص القرآني، حتى تلاقفتني بعض التعليقات التقليدية بلذاعتها. في الغالب لا تتناول التعليقات عمومًا- كلما أثيرت قضية الحجاب أو كلما ذكر رأي مختلف في أي جزئية دينية- الموضوع بحد ذاته. ولا تتم مناقشة تفاصيل القضية أو خلفيتها التاريخية أو حتى رأي المتحدث المذكور، حتى تنصب التعليقات «الكلاسيكية» عادة على جهل المتحدث، وعلى عدم تخصصه الديني، وعلى تغريبه، ودفعًا بنظرية المؤامرة التي تؤكد أن المتحدث مدسوس، غالبًا من الغرب، ليهدم الدين وليضعضع أركانه وليشكك الناس في ثوابته.
ولكن، ولنأخذ الموضوع من آخره، ماذا لو تشككنا في بعض «الثوابت» خصوصًا تلك التي تتضارب مع الزمن والعصر والمبادئ الحديثة لحقوق الإنسان؟ ألم يتفكر المفكرون حول موضوع العبودية مثلاً فوجدوا لها مخرجًا من خلال طواعية النص وقابليته لإعادة القراءة والتفسير؟ ما المانع أن يعاد التفكير في العديد من المناطق الدينية التي تؤثر سلبًا على المسلمين وتضعهم في تضارب دائم والمفاهيم العصرية للحقوق والحريات؟ لا أدفع هنا جزمًا بالتغيير في اتجاه معين أو في عكسه، بل لا أدفع بالتغيير أصلاً كنتاج محقق لإعادة التفكير وإن كنت أتمناه، كخطوة أولى كل ما أدفع به هو فتح باب إعادة التفكير، فتح باب إصلاح الخطاب وإعادة القراءة وتجديد المفاهيم، الباب صدئت مفاصله وارتفع صوت صريره كلما حركناه ولو بمواربة خفيفة، أما حان الآوان لفتحه على مصراعيه وتزييت كافة مفاصله لتصبح طيعة سهلة التحريك؟ مم يخاف المسلمون؟ أي تهديد يتربص بهم إن هم أعادوا التفكير والتفسير والتحليل والتأويل؟
تلتزم الأغلبية المسلمة، ولربما الأغلبية المتدينة في أنحاء الدنيا، بمسلمات دينها دون تعمق فكري أو قراءة تاريخية ولو أولية. في الغرب، تحمي القوانين هؤلاء الذين لا يودون أن يسلموا للمسلمات، الذين يودون أن يناقشوا ويختلفوا ويسألوا، أما في عالمنا العربي الماضوي، فالقوانين لا تحمي اختلافك، هي تسميه ازدراء، وتصفه بالخروج عن الدين، تأتيك القوانين من الشمال، وتأتيك محارق المجتمع من الجنوب، من اليمين تُقبِل فتاوى تكفرك، ومن اليسار تهتف بك تهديدات في رزقك وأمنك، يصبح إخراسك دفاعًا عن الدين، ولربما يصبح إنهاء حياتك (فرج فودة مثالاً) تأمينًا للعقيدة وتكميمًا لكل فم يعلوه عقل يفكر، مجرد التفكير، أن يرسل إشارته للشفتين.
لا أستشعر أنا حقيقة نصف هذه الضغوط، فالكويت بلد مكفولة فيه حرية الرأي لحد كبير (الحريات السياسية تتفوق على الحريات الدينية بمراحل) ولا أفكر للحظة في تشبيه نفسي بالعظماء الذين بذلوا أرواحهم من أجل الكلمة، لكنني فقط أستذكر الحالات الحارقة القارسة، التي غرست خسائرها الوجل في قلوبنا عميقًا، وخلقت في داخل كل منا رقيبًا ينقح ويدقق قبل أن يتفوه، أستذكرهم وأستذكر تضحياتهم وأنا أستشعر المرار الخفيف جدًا في فمي، ترى ما كان مذاق العلقم حين يمضغونه تضحيات حتى الموت في أفواههم؟
تنقيح وإصلاح الخطاب الديني هو أهم ما يمكن للمسلمين أن ينجزوه اليوم، وسيفعلون برضاهم أو بضغوط الآخرين وبفعل الزمن والتطور والتغيير. وإصلاح أوضاع المرأة الدينية هو أهم من أهم ما يجب إصلاحه وتنقيحه: قوانين الإرث والزواج والطلاق ومفاهيم القوامة والطاعة والحجاب، كلها يجب أن تكون على الطاولة ملء العين والفم للنقاش والتعديل. وليبدأ كل ذلك بالمرأة في حد ذاتها، وعليها- وهي تتفكر في أمور دينها وتنفذها- أن تقرأ فيها وفي بعدها التاريخي وظروف نشأتها ورحلتها التي أوصلتها لها اليوم، لتفهم أكثر القرارات التي ترسم عليها مطلق حياتها.
البداية عندنا نحن النساء ومن منطلق قضايانا، إن أصلحنا هذه القضايا انصلح حال الأمة، وإن تركناها مال الحال، ولكنه لم يعد يحتمل ميلاً أكثر من ذلك.