الباب الخلفي
سقطت الطائرة الروسية فتشفى العرب والمسلمون في الروس، وقعت أحداث فرنسا المرعبة فقارنها العرب والمسلمون بنكهة من الغل والشماتة بأحداث سوريا والعراق وغيرها من المناطق العربية المنكوبة. شيء ما فكاهي حد الأسى في ردود أفعالنا، شماتة طفولية وغيرة أنانية تلون كل ما نشعر به تجاه أحداث العالم المختلفة. نشمت نحن في مآسي الآخرين وان أصابت الأبرياء منهم، ونغير نحن من اهتمام العالم بغيرنا وإن اهتم بالمنكوبين بينهم. اعتدنا أن نكون تحت المجهر، أن نستحوذ على الاهتمام، أن نكون أبطال العزاء، أن نحتل موقع المساكين المنبوذين الذين يتآمر العالم أجمع عليهم ليستغل بترولهم، يستحوذ على أرضهم، يقضي على دينهم، يسيء إلى ربهم ولو من خلال كتابة متشابكة للكوكا كولا.
المثير في الموضوع أن نكباتنا من صنعنا ونكبات الآخرين من صنعنا كذلك. ليس هذا جلد للذات ولا هو استصغار للنفس، إنها محاولة للمواجهة الحقيقية مع الواقع.
ليس هناك من مراقب للأحداث العالمية قادر على نفي دور القوى العظمى في مصائب الشرق الأوسط: الدور الأمريكي النشيط في العراق وذاته الخامل في سوريا، الدور الفرنسي النشيط في سوريا وذاته الخامل في العراق، الدور البريطاني المخجل في العراق، الدور التركي المؤذي في سوريا، الدور الإيراني الخفي الظاهر في الشرق الأوسط بأكمله، الدور الأمريكي الواضح في الخليج، الدور الروسي المرعب في سوريا، كلها أدوار نعرفها، نميزها، نفهمها أو لا نفهمها، لكننا نفقه وجودها. يبقى السؤال: من الذي يفتح الباب لكل هؤلاء الممثلين ليؤدوا أدوارهم بين ظهرانينا، أي أنظمة استسلمنا لها تدخلهم من الباب الخلفي لنتعثر نحن بهم على المدخل الرئيسي، أي أيديولوجيات نصنعها نحن تبرر وجودهم وتستلزمه، أي حفر نحفرها نحن لا تردمها سوى مخلفات جيوشهم وأسلحتهم؟
لن يتغير العالم السياسي من أجلنا، لن يصبح في يوم أخلاقياً إنسانياً، لأن السياسية بطبيعتها هي الشر والاستغلال وفرض السيطرة وفن الممكن، حتى وإن كان على رقاب الأبرياء. لن نستطيع أن نغير العالم لينصفنا، لكننا نستطيع أن نتغير لننصف أنفسنا ونرد كيد الآخرين. يبدو الكلام بسيطاً حد السذاجة، ولكن أحياناً أعقد المشاكل لربما لا تحتاج سوى أبسط الحلول، والعلم يقول أن أصح الاختيارات هي الأكثر بساطة والأكثر قابلية للتنفيذ. لن نغير أمريكا وروسيا وفرنسا، لا يمكن أن يحدث ذلك، فهل يمكن أن نغير أنفسنا؟
نحن قوم مرتابون، والريبة جيدة أحياناً عندما تكون بمقدار يوقد الـــوعي ويحفز الانتباه، ولكن ما أن تفيض عن حدها حتى تتحول إلى عائق نفسي يمنع التواصل حتى يوحش صاحبه ويعزله عن الآخرين.
نحن نعيش ريبة مستمرة معيقة، نقرأ كل تصرف على أنه نظرية مؤامرة، نؤول كل حدث على أنه ردة فعل إلهية تجاه أعدائنا، والأسوأ والأمرّ أننا باستمرار نقارن مصائبنا بمصائب الآخرين، ولا نقبل بالتعاطف معهم إلا قدر تعاطفهم معنا، نشمت نحن في من آذانا، وكأن مصابهم يخفف من مصابنا أو أن كوارثهم تنتقم لكوارثنا، ولربما هذا أسوأ ما قد يصيبنا كأمة عربية شرق أوسطية، أن توحّشنا مشاكلنا وتقسي قلوبنا نكباتنا حتى لتخلو هذه القلوب من التعاطف الإنساني الفطري ومن الاحترام المبدئي الأخلاقي لمصاب الآخرين ولفقدهم.
شماتتنا في مفقودي الطائرة الروسية ومقارنتنا للكارثة الفرنسية الأخيرة بكوارثنا لا تكسبنا جدلاً ولا تربحنا هدفاً، مثل هذا التوجه، بدائي المشاعر، ما هو سوى دليل على تخلفنا الجسدي والنفسي عن ركب الحضارة والتطور الأخلاقي الإنساني، فتجدنا ننفس بسذاجة ونشمت بصفاقة ونقارن بطفولية ونفرح بأسلوب شرير لا يعكس سوى مرضية مجتمعاتنا.
أحداث العراق لا تقلل من حجم الكارثة الفرنسية ومصاب الطائرة الروسية لا يخفف من وقع النكبات السورية، كلنا في الفقد بشر، كلنا في الحزن نفوس كسيرة، كلنا في معايشة الشر المتنامي في مجتمعاتنا أسرى، فلنرفق بفقد الآخرين حتى نصبح بشرا أفضل وحتى نحيا حياة أكثر سلاما مع أنفسنا قبل الآخرين.