إبنة خالتك ثالث مرة
ابنة خالتك ذاتها التي تحدثنا عنها في المقالين الماضيين، هي مع ابنة عمتك وبقية قريباتك والصديقات القريبات والبعيدات، هن السبب في هذا الضغط النفسي والهوس المظهري الذي تعانيه ابنتكِ، تلك التي تتعذب بوزنها، «تناضل» من أجل «تعديل» مظهرها، ساعية إلى شكل غير حقيقي وكمال لا تمتلكه حتى الظاهرات به على أوجه الصحف والمجلات التي تبيعنا الوهم الذي نشتريه بكل أريحية لنتعذب به.
كل هؤلاء السيدات اللواتي يعذبنك وابنتك اليوم قد عذبن أو يعذبن أنفسهن يومًا ما، كلهن عانين من التعليق على أشكالهن، ومن التندر على أوزانهن، من الانغمار في المستحضرات التي لا نهاية لأنواعها وأشكالها، من الانبهار بتكنولوجيا التجميل أيًا كان زمنها وتطورها، من التوق إلى الظهور بمظهر هؤلاء الساحرات الخلابات اللواتي يظهرن على أوجه الصحف والمجلات، واللواتي، حتى هن، لا يظهرن في الحقيقة كما هنّ على هذا الورق اللامع المصقول. كلنا تعذبنا بمظهرنا ووزننا وشكلنا وطموحنا في أن نبدو أجمل وأن نقاوم الزمن، لننتقل في مرحلة لاحقة إلى تعذيب بناتنا وصغيراتنا بأدوات التعذيب ذاتها ولنحملهن الأعباء ذاتها، ولنسبغ عليهن ذلك الحرمان من اختبار الحياة بحالة من الرضا والتصالح مع النفس، الحرمان ذاته من اختبار الحياة من خارج الجسد وبلا تأثير من المظهر وبلا تأثر برأي الآخرين وحمل عبء تعليقاتهم وأحكامهم.
كم منا، نحن الأمهات، من تضغط على صغيرتها لتأكل أقل، ولتحافظ على شكلها ووزنها ومظهرها؟ كم منا من تعلق بقسوة على وزن ابنتها، ومع كل تعليق تنهش هذه الأم بشراسة جزءًا من ثقة ابنتها بنفسها ومن سعادتها وانطلاقتها في الحياة؟ كم واحدة منا تمر بجانب ابنتها وتلقي التعليق بكل عفوية «سمنتِ»، «كفاك أكلا»، إلى ما يتعداها من تعليقات قاسية ترسل تهديدات للفتاة في قبولها الاجتماعي وفرصها في الزواج خالقة هزة في النفس وتتجاوزها نظرة ساذجة وهدامة للزواج على أنه غاية المنى؟ كم واحدة منا تتذكر كيف سرقت منها فرحتها وانطلاقتها وتمتعها الطفولي بالحياة بسبب هذه التعليقات والأحكام لتعود وتلتف فتمارسها على ابنتها وتعذبها بها؟ لماذا لا نترك الفتيات ليستمتعن بالحياة من زاوية مختلفة، زاوية لا أحكام فيها ولا مخاوف، لا قطار زواج يفوتها، ولا كلام ناس يحكم ويتحكم؟
واجبنا بصفتنا أمهات، بكل تأكيد، هو المحافظة على صحة صغارنا، بنات وأولادًا، وتوجيههم ليحيوا حياة صحية بأجساد قوية، يعتنون بها من خلال الأكل السليم والحركة الرياضية، لتصل بهم إلى أعمارهم الطويلة المتقدمة التي نتمناها لهم. زاويتنا يجب أن تكون زاوية صحية، نحكي من خلالها للأولاد والبنات عن قيمة الجسد وعن ضرورة المحافظة عليه ليحملنا إلى آخر الحياة ويمكننا من رؤية المزيد منها. ما تفعله معظم الأمهات يأتي من زاوية مختلفة، زاوية تحمّل الصغيرة- ما إن تبلغ العشر سنوات وربما قبل ذلك- عبء جسدها الذي يجب أن تحرمه من رغبات طفولتها حتى يستطيع ملاحقة المظهر المطلوب، وفي الوقت ذاته يستطيع تفادي الأحكام القاسية. تقسو الأمهات وهن يضغطن على الصغيرات، يعلقن عليهن بتعليقات هدامة تضع في اعتبارها الجسد غير آبهة أبدًا بالروح، تعليقات تهدم مفهوم الثقة بالنفس وتضع الصغيرة تحت رحمة أعين الناس وتقييمهم، تعليقات تسرق المتعة الحقيقية بالحياة وتبعد القضايا الأهم فيها، تعليقات تخلق أرواحًا مكلومة ونفوسًا مهمومة لاهثة خلف رضا الآخرين وعقولاً تسطح نشاط تلك النفوس وتكتم ما تبقى من قدراتها وتسد كل المنافذ المهمة القيمة لأعماقها الحقيقية.
أعلم أن كل واحدة فينا لا تأتي على أبنائها وبناتها إلا عن محبة غائرة وقلق يستأثر بالروح، ولكن الواجب هو أن نعيد قراءة إستراتيجياتنا الأمومية لنخفف عنهم، وخصوصًا عن فتياتنا اللواتي يأتين إلى الدنيا محملات أصلاً بأعباء متوارثة. لا يجب على بناتنا أن يمررن بما مررنا به، لا يفترض بهن أن يعتقدن كما اعتقدنا، بل يا حبذا لو كان الهدف أن نعكس طريقهن ونبدل مفاهيمهن ونغير تمامًا طريقة عيشهن للحياة وتقييمهن لطعمها ومتعها. إذا كنا حملنا أحمال المظهر، وإذا كانت أوزاننا وأشكالنا دائمًا هي الهاجس الأول والسد الأعلى بيننا وبين الانطلاقة في هذه الحياة، فلا أقل من أن نقتل هذا الهاجس في قلوب صغيراتنا ونهدم هذا السد أمام طرائق حياتهن، ونعطيهن فرصة لأن يكن صغيرات، ولأن يستمتعن حقيقة بالحياة، ولكي يضعن هذا الحمل الثقيل المتوارث جيلًا بعد جيل من على أكتافهن، فمن دون هذا الحمل سيستقيم الظهر، وستتسع الرؤية ويرتفع نطاقها، وسيكون المنظر أوضح والحركة أخف والأنفاس أجمل، وربما ستغير هذه الصغيرات ما كنا اعتقدنا نحن باستحالة تغييره. ستعيش هذه الصغيرات عمرًا كاملاً يتعاملن فيه مع نظرة المجتمع وأحكام الناس وقسوة الإعلام والإعلان، تلك القسوة التي ستقدم أنماطًا غير حقيقية ليتعذبوا بها. فلا أقل إذن من أن نصبح نحن، الأمهات، مصدر الراحة والثقة، ولا أقل من أن نكون القوى المعاكسة التي تدفع للاستمتاع بالحياة وتمييز الحقيقي الجدير بالاهتمام فيها. خففن عن فتياتكن، لا تذْكرن أشكالهن إلا بالمديح والمحبة، أنتن من أورثتن الجينات المسؤولة، وعلى ذلك أتيتن بهن إلى الحياة، فلا أقل من أن تكن مصدر سعادة فيها.